تبدو الوساطة الأميركية بين إسرائيل وحماس، في أحسن أحوالها، كما لو كانت تجري وفق ثقافة وخبرة الرئيس دونالد ترامب، أي كما لو كانت أقرب ما تكون للسمسرة العقارية، حيث يعمل السمسار عادة لصالح بائع البضاعة، فيكون كل همه أن ينجح في تسويقها حتى لو كانت فاسدة، وبأي شكل يمكن من خلاله ان يخدع المشتري، حتى لو مارس النصب والاحتيال، وهكذا لا تكون أفكاره منطقية أو أخلاقية بقدر ما تتوالى مقترحاته تباعاً، وتتغير وفق العرض والطلب، وما يعرضه اليوم ليس بالضرورة أن يبقى معروضاً غداً وهكذا، وكثيراً ما يلجأ سماسرة العقارات إلى ممارسة الحيلة، كأن يقوم أحدهم بلعب دور من يرغب في الشراء، لتشجيع المشتري، وكذلك يمكن أن يؤدي دور السمسار أكثر من وسيط، يعملون معاً كفريق واحد، متعدد الأدوار.
هذا النموذج رأيناه بوضوح خلال الأشهر القليلة الماضية، وذلك رغم أنه لم يمض طويل وقت، على قيام إدارة ترامب بدور الوسيط بين حماس وإسرائيل، يهدف في ظاهره الى التوصل لعقد صفقة تبادل جديدة بين الطرفين، فيما يبدو الهدف عند الوسيط الأميركي والجانب الإسرائيلي ليس كذلك، بل يبدو بأن إسرائيل تحاول ويساعدها الوسيط الأميركي أن تحقق بالسياسة ما عجزت عنه بالحرب، أي ان تخرج باستسلام صريح من قبل حماس، يدفعنا الى قول ذلك العديد من الوقائع التي سنعرضها لاحقاً، لكن قبل ذلك لا بد من القول، بأن "الوساطة الأميركية" في عهد ترامب مختلفة كثيراً عما كانت عليه في عهد بايدن، فأيام بايدن كان وزير الخارجية انتوني بلينكين ومعه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان يتركان امر الوساطة للقطريين والمصريين، وكان الوفد الإسرائيلي مكوناً من ديفيد برينياع رئيس الموساد ورينون بار رئيس الشاباك، فيما كان الأميركيون يتدخلون حين توشك المفاوضات على الانهيار، أي ان أميركا كانت تهدف من استمرار التفاوض حتى تهدئ من جبهة الرفض الدولي ومن توالي مشاريع القرارات الأممية التي كانت تحرج واشنطن باستمرار.
أما في ظل إدارة ترامب، فإن الأمر مختلف، ليس مع تخصيص موفد دائم لتلك المهمة، وإن كان غير متفرغ رسمياً لها، مع توليه مهمة متابعة الملف الأوكراني أيضاً، لكن يبدو بأن الهدف هو فعلاً التوصل لعقد الصفقة، لكن المشكلة تكمن في التوصل لذلك بأي ثمن، ووفق منطق سمسار العقارات، الذي يهتم بعمولته أكثر من أي شيء آخر، وهو من أجل ذلك الهدف لا يضغط على الطرف المعرقل، أو الذي يشترط ما هو غير منطقي، بل يضغط على الطرف الذي يظنه هو الأضعف، ولو كان الأمر غير ذلك، لكان الوسيط الأميركي رفع عقيرته في وجه الطرف الإسرائيلي، بسبب تنصله أولاً من اتفاق الصفقة المبرم في شهر كانون الثاني الماضي، وعدم انتقاله للمرحلتين الثانية والثالثة، بعد تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، الذي عقد في ظل تلك الوساطة وبتهديد من ترامب نفسه، حيث قيل بأن ذلك التهديد كان هو السبب في التوصل لذلك الاتفاق، ولأن كل الدنيا تعلم بأن نتنياهو ولأسباب خاصة بائتلافه الحاكم، يتهرب من اتفاق كلي، يطلق كل المحتجزين مقابل وقف الحرب.
ما يدل على وجود تخبط او عدم اتساق في الموقف الأميركي هو وجود أو تدخل اكثر من موفد الى جانب ستيف ويتكوف الموفد الرسمي لتلك المفاوضات، ويبدو بأن عدم استقرار إدارة ترامب يتجاوز الخروج الاضطراري المبكر لمستشار الأمن القومي مايك والتز بعد اقل من أربعة شهور على تعيينه في المنصب، ونشير بذلك الى تدخل آدم بوهلر الذي كانت مهمته هي التفاوض المباشر مع حماس دون علم إسرائيل، وذلك لإحداث اختراق في مفاوضات الصفقة، بما يدل على ان واشنطن تعلم جيداً بأن نتنياهو لا يريد الصفقة ويعطلها باستمرار، ما أثار حفيظة إسرائيل حين علمت بالأمر.
وظهرت أسماء جديدة في عملية الوساطة، فيما ظل ويتكوف هو من يمثل الموقف الرسمي، وهو الذي يلعب دور المسوق للموقف الإسرائيلي، وإن كان يبدو وسيطاً، وما يؤكد هذا_ وكان هذا ثانياً_ ليعتبر سبباً لأن يرفع ويتكوف بالتحديد عقيرته في وجه إسرائيل وليس في وجه حماس، أن ويتكوف نفسه لم يكن فقط هو الوسيط الأميركي في صفقة كانون الثاني وحسب، بل هو الذي قدم مقترحاً خاصاً به، مباشرة بعد تنصل إسرائيل من مواصلة تنفيذ الصفقة السابقة بعد مرحلتها الأولى، وكان جوهر ذلك المتقرح، إطلاق سراح نصف المحتجزين الأحياء مقابل وقف إطلاق النار مدة ستين يوما، ووفق برنامج إطلاق المحتجزين السابق في صفقتَي التبادل السابقتين حين جرت الأولى في شهر تشرين الثاني العام 2023، والثانية في شهري كانون الثاني وشباط من العام الجاري.
وكان الجدل قد دار بشكل أساسي حول العدد المقترح إطلاق سراحه، ففي حين قال مقترح ويتكوف بأحد عشر محتجزاً، قالت حماس بخمسة او ستة، فيما اقترحت مصر حينها سبعة أو ثمانية، لكن أحداً لم يقل بأن يجري إطلاق نصفهم في اليوم الأول، والنصف الثاني بعد سبعة ايام، وهكذا تحصل إسرائيل على نصف المحتجزين الحاليين مقابل أسبوع هدنة فقط، لأن أحداً لا يمكنه ان يضمن مجرمي الحرب من العودة لإطلاق النار في اليوم السابع، والدليل عدم التزام إسرائيل بكل ما وقعته طوال عمرها من اتفاقات، وآخرها صفقة كانون الثاني التي توسط فيها ويتكوف نفسه ممثلاً لترامب إياه!
والحقيقة انه بعد اكثر من عشرين شهراً من التفاوض حول صفقة التبادل، وبعد أن اتضحت الأمور تماماً، بحيث صار التحليل السياسي أكثر وضوحاً، بل بات مجرد تذكير بما كان وأن وقع أو حدث، فإن موقفَي حماس وإسرائيل متناقضان في الجوهر، فحماس تريد صفقة الكل مقابل الكل، والمحتجزون لديها لهم مهمة وحيدة وهي وقف الحرب، فيما إسرائيل تسعى الى وقف مؤقت في احسن الأحوال للحرب، وتريد إطلاق اكبر عدد من المحتجزين، وحتى كلهم لو امكن ذلك لمواصلة حربها الإجرامية بقوة اكبر وبحرية أعلى، ودون أية معيقات، ولذلك فان الإبقاء على المحتجزين يمثل مهمة سلمية، كونه يعرقل الى حد ما هذه الحرب المجنونة، ولنا ان نتخيل كيف ستكون الحرب في حال تحرر قادة إسرائيل المطلوبين للعدالة الدولية من قيد المحتجزين، الذي يجعلهم يفكرون ربما بالتردد قليلاً عن إلقاء كل ما لديهم من قنابل على غزة دفعة واحدة.
ووفق منطق تعدد الأدوار بين رجال الوسيط الأميركي، فإن مهمة بوهلر يبدو أنها انتهت بإطلاق سراح عيدان الكسندر، وذلك عشية زيارة ترامب لدول الخليج العربي الشهر الماضي، فيما ظهرت اللعبة الأميركية في محاولة كسب ثقة حماس لإيقاعها في فخ الوعد الأميركي كضامن لوقف الحرب، بدلاً من إجبار إسرائيل على الإعلان عن وقف الحرب المفتوحة والتي هي بلا جدوى، فضلاً عن كونها حرب إبادة جماعية ستجر إسرائيل في يوم ما الى نهايتها كدولة عضو في المجتمع الدولي.
وبعد ان سارعت إسرائيل على الفور الى رفض مقترح واشنطن الجديد، تقدم ويتكوف بمقترح قالت عنه "معاريف" بأنه تبنى مقترح رون دريمر المقرب من نتنياهو الذي كان قد منحه ملف التفاوض في الدوحة بدلاً من برينياع وبار، وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، فإن الثابت في الأمر هو أن ويتكوف نفسه لم يدافع عن الاتفاق الذي شارك في صياغته، وهو يظن بأن الأيام قد "روضت" حماس لدرجة أن تقبل أخيراً برفع الراية البيضاء، والتوقيع على صك الاستسلام، الذي لا يتوقف عند حدود خروجها من الملعب السياسي وحسب، بل انه يفتح الباب واسعاً، في حال لم ينص الاتفاق صراحة، ولم يتضمن ضمانة كافية لإجبار إسرائيل على وقف الحرب، على مواصلتها لتحقيق هدف التهجير وإفراغ قطاع غزة من سكانه، ومن ثم ضم أرضه لدولة إسرائيل الكبرى!