غزة المتكسّرة بكلّ طقوس الحزن..!
أكرم عطا الله
غزة المتكسّرة بكلّ طقوس الحزن..!
الكوفية لم تكن غزة مكسورة كما البكاء الحزين الذي يتصاعد من خيام أغرقها طوفان المطر، فهي الصلبة التي عاركت كل أنواء الحياة ولم تحن رأسها، لكنها الآن تصرخ بصوت أطفالها ونسائها: «خذنا يا الله». لم يبق أي أمل لها سوى الأمل بالموت في لحظة تجسد فيها ذروة التراجيديا التي لا مفر من الوصول إليها؛ بعد رحلة التدمير والسحق، ليجد الناس أنفسهم يجرون كمن لسعتهم أفعى حين اقتحمت الأمطار خيامهم وبللت حوائجهم البسيطة، فأصبحوا عراة بعد أن كسرت الحرب نفوسهم من الداخل وتركتهم بانتظار موت أصبح أمنية الغزيين.. هكذا تقول المقاطع التي تكسر القلب.
لا أعرف لماذا كانت غزة تندفع بكل ما تملك من قوة بسيطة مع أول نداء عابر على نمط «من شان الله.. يا غزة يلّا». هل هي خفة ممارسة السياسة لدى أبناء عاشوا واقعاً مغلقاً لعقود حد من قدرتهم على فهم وإدراك السياسة، أم أن غزة كانت تصدّق أنها تعتصم بقوة المعتصم بالله أمام هذه الوحشية المدججة بالسلاح وبالكراهية؟ لا أعرف لماذا كانت تندفع أو تندلع وفي كل مرة تعود مدماة، وتكتشف في كل مرة أنها تركت تنزف وحيدة. إنه طيش الأبناء الذين لم يتعلموا درس التاريخ إلا بعد أن يشرفوا على دمارها جالسين على تلة الخراب، وقد لا يكون كما نسمع حيناً، وتلك مصيبة.
منذ بداية الحرب بدا وكأن العالم الدولي والإسلامي والعربي سلَّم لإسرائيل أن تفعل ما تشاء بغزة، شريطة أن تكون هذه المعركة الأخيرة مع تلك المنطقة التي لم تكفّ عن المشاكسة. هذا ما حدث لنا ولأهلنا الذين يصرخون في الخيام أو خارجها، حين باغتتهم مياه الأمطار كأنها تستكمل حرباً لم تنتهِ بعد في حكم أن تتذوق فيه تلك المنطقة البائسة عذاباً لم يكتب لمن قبلها. يا إلهي، كم هي موجعة تلك اللحظات حيث النساء يبكين والأطفال يفرون بفزع نادمين على نجاتهم من الحرب وبانتظار موت أكثر رحمة من الغرق!
في القلب المكسور حنين لمسقط رأسٍ ضاع بين وحشية فاشية وجهل أبناء لم يبلغوا سن الرشد السياسي؛ بعد استعاضوا عنه بخلط غريب بين السياسة والميثولوجيا. تبدو غزة أمامي مسجاة تبحث عن أنفاسها التي تقطعت وهي تتأرجح بين رحلة الحياة والموت الطويلة بلا توقف كعادتها، كانت لحظات الموت أكثر حضوراً في تاريخها الحزين. كيف انكسرت غزة العصية على الانكسار؟ ابنة الجغرافيا القديمة التي لم تولد على سواحل الرفاه، بل عاركت كل سفن القراصنة كي تحيا على الشواطئ.. كيتيم وجد نفسه وسط كولوسيوم روماني قديم وعليه النجاة من كل الطعنات ومن الافتراس، فقرر أن يقبل النزال.. لينجو قبل الخراب الأخير.
لكن التدريب الطويل على الحياة ومشاكسة الموج وطيش الأبناء كسر ظهرها ليصاب بانحناءة مزمنة بعد المغامرة الأخيرة، وليحول الشتاء إلى مصيبة والصيف إلى أفران للموت.. الربيع بلا طعم، ورائحة العشب محشوة بالقنابل، وخريف تتساقط فيه أعمار أهلها دون وداع يليق بكبرياء من كانوا يوماً أعزاء قوم كسرهم العبث الذي أصبح في سنواته الأخيرة جزءاً من المشهد الغزي الساخر بمرارة؛ حين وصل الأمر لأن تعتقد أنها نموذج لا مثيل له في كل شيء في إغاثة ملهوف في الضفة يناديها، وخطابات الثقة التي لا رصيد لها، وصناعة الصواريخ واستعدادها للتصدير، وفي الإدارة وكل شيء، لتكتشف فقرها ووهنها وبساطتها لكن بعد فوات الأوان. قال صديقي وماذا تفيد المراجعة ويفيد الاكتشاف بعد كل هذا الخراب؟ هل سيعيد لنا الشوارع والرفاق؟
الذاكرة مصابة بوجع مزمن تستبد به الحمى مع بكاء طفل وقدم مبتورة لطفلة صغيرة، وغيمة تتحول إلى قنبلة قاسية من المطر تنفجر بركاً بين خيام النازحين، وامرأة يصدمها موت الأغطية التي أصيبت بالبلل أو الشلل، وسيد قوم يبكي على أطراف خيمته يوماً كان يحيا كالبشر.. كانت لحظة خريف تشرين تطفئ لهيب بحر أعيته ضحكات صيف الصغار، حين تبدأ أشجار غزة بالثورة تترك أوراقها للريح تتراقص على الأرض وحواف الشوارع، وبين أقدام العشاق تكتب على الأرض عناق الحياة القادم.
أما عن باقي الفصول في بلاد لا تشبه سوى ما يدلقه الحب على عتبات بيوت تخلع عقلها في المساء، قبل أن ترتديه مع الفجر وقطرات الندى على ورقة تكفي العطشى لعودة الحياة ـ بدل أن تذبل كل الأوراق لأن يداً آدمية قد مستها يد طائشة، ففي الذاكرة ما يكفي من الفلاتر لنزع ما حملته أوجاع حديثة لتصفي ذكريات المدينة، لكنها هذه المرة تعطلت جميعاً لتظهر أمامي في تابوت العبث بعويل ساكنيها الذين أصبحوا بقايا بشر بعد انتزاع أرواحهم.
غزة لم تكن خبر الكون كما يقال دوماً، لكنها كانت مبتدأه ونهايته، تبكي الآن بعد أن توقف الموت بالرجّة العنيفة ليصبح بالنواح الخافت.. ظلت تحتل أغلى الأماكن في القلب الذي يبكي مع بكاء طفلة.. يا لظلِّي الذي عاندني حين افترقنا عندما غادرتها ولم يتبعني، فظل هناك يحرس الذكريات فأصيب بكل شظايا الحرب، وشظايا المطر فانكسرت روحه.. هذا أنا وظلي وغزتي والأهل والأصدقاء هناك والمطر المعادي، كأن هذا ما ينقص غزة.. فليكن دفئاً وسلاماً..!