دوافع القوى داخل مجلس الأمن في معركة مشروعي القرار الأميركي والروسي بشأن غزة
مصطفى إبراهيم
دوافع القوى داخل مجلس الأمن في معركة مشروعي القرار الأميركي والروسي بشأن غزة
الكوفية تتداخل في مشهد مجلس الأمن حول غزة مستويات مختلفة من المصالح والقوة، تجعل التصويت على المشروعين الأميركي والروسي مواجهة تتجاوز حدود الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي إلى صراع على هوية النظام الدولي نفسه. وفي هذا السياق، تبدو كل دولة مدفوعة بحسابات دقيقة تتعلق بمصالحها الاستراتيجية وعلاقاتها الإقليمية وتوازناتها الداخلية.
الولايات المتحدة تأتي إلى مجلس الأمن وفي ذهنها هدفان أساسيان: الأول هو تثبيت سيطرة سياسية على المسار الفلسطيني–الإسرائيلي بعد أن فقدت واشنطن القدرة على احتكار الملف خلال السنوات الماضية. والثاني هو إعادة إحياء خطة ترامب للسلام بطريقة أكثر قبولاً دولياً عبر تضمين عناصر منها داخل وثيقة أممية، بما يمنح الإدارة الأميركية حق قيادة المرحلة الانتقالية في غزة وإدارة ترتيبات ما بعد الحرب. وترى واشنطن أن إدارة الوضع في غزة عبر “مجلس السلام” والقوة الدولية يمنع إعادة صعود حماس، ويقيّد حركة إسرائيل في الوقت ذاته، مع تقديم “أفق سياسي” يكفي لتأمين الدعم العربي من دون أن يشكل التزاماً أميركياً بإقامة الدولة الفلسطينية. لذلك يحتاج الأميركيون مشروع القرار ليس فقط لمعالجة ملف غزة، بل لإعادة تعريف دورهم العالمي في مرحلة تتراجع فيها قدرتهم على صنع القرارات منفردين.
أما روسيا، فاندفاعها لتقديم مشروع قرار مضاد يعكس محاولة واضحة لتقويض محاولة واشنطن تفردها بالملف الفلسطيني. فموسكو ترى أن دخول خطة ترامب إلى نص أممي هو اعتراف بشرعية رؤية أميركية أحادية تتجاهل المرجعيات القانونية التي تستند إليها الدبلوماسية الروسية منذ عقود. كما أن روسيا تريد استخدام الملف الفلسطيني لإظهار أن النظام الدولي لم يعد متعدد الأقطاب فحسب، بل إن أي قرار كبير لا يمكن أن يمر من دون موافقتها. وتدرك موسكو أن وجودها في سوريا، وصلاتها مع إيران والفصائل الفلسطينية، يمنحها أوراقاً كافية لفرض نفسها لاعباً لا يمكن تجاوزه. لذلك فهي لا تقدم مشروعاً مضاداً فحسب، بل تحاول إعادة صياغة قواعد اللعبة بحيث يعود مجلس الأمن إلى دوره التقليدي بدلاً من كونه منصة لشرعنة القرارات الأميركية.
الصين تتقاطع مع روسيا في رفض التفرد الأميركي، لكنها تتحرك بدافع أعمق مرتبط برؤيتها لنظام دولي جديد. فبكين ترغب في تعزيز مكانتها كقوة دبلوماسية مسؤولة يمكنها التوسط في نزاعات الشرق الأوسط، كما فعلت في التفاهم السعودي–الإيراني. ولذلك فإنها تنظر إلى المشروع الأميركي على أنه محاولة لإعادة التوازن الدولي إلى ما قبل صعودها. ومن المحتمل أن تمتنع الصين عن التصويت إذا رأت فرصة لإخراج مكاسب دبلوماسية، لكنها لن تمنح واشنطن نصراً سياسياً سهلاً في قضية تشكل رمزاً لدى العالم الإسلامي.
من جانبها، فرنسا وبريطانيا تتعاملان مع الملف بصورة براغماتية. باريس ترى أن ثمة فرصة لاستعادة دورها في الشرق الأوسط عبر المبادرة المشتركة مع السعودية، ولذلك فهي تميل إلى دعم المشروع الأميركي شرط ألا يتجاهل بالكامل المبادرة الفرنسية–السعودية التي تعتبرها باريس عنصر توازن. أما بريطانيا، فهي أقرب إلى الموقف الأميركي وتستند إلى شراكة تقليدية مع واشنطن، وترى أن استقرار غزة ضروري لمنع تصاعد التوترات التي قد تهدد مصالحها في شرق المتوسط. ومع أن الدولتين الأوروبيتين تتفهمان حساسية روسيا، إلا أنهما تميلان إلى دعم مشروع يضمن ترتيبات أمنية واضحة ويحد من نفوذ إيران وحلفائها.
وفي الجانب العربي، لا يبدو الموقف موحداً. فبينما ترى قطر والسعودية والإمارات والأردن أن المشروع الأميركي – رغم عيوبه – يمثل الإطار العملي الوحيد المطروح حالياً، تتحرك مصر برؤية مختلفة. فالقاهرة تعمل على دفع صيغة إدارة فلسطينية انتقالية أو “إدارة إسناد” تشكل بديلاً عن البنية الانتقالية التي تقترحها واشنطن، وبما يتوافق مع المصالح الفلسطينية والعربية. وتتقاطع مصر جزئياً مع الموقف الروسي في رفض التعجل في فرض قوة دولية قبل تحديد شكل الإدارة الفلسطينية المقبلة، وفي رفض أي ترتيبات قد تنتقص من دورها الإقليمي أو تتحول إلى وصاية خارجية طويلة على غزة.
أما إسرائيل فتجد نفسها في موقف معقد. فهي ترفض أي صياغة تذكر “مساراً للدولة الفلسطينية”، لكنها لا تملك القدرة على إسقاط النص الأميركي إذا حظي بدعم عربي وأممي واسع. ومع ذلك، تضغط إسرائيل لتحويل القوة الدولية إلى قوة “فرض سلام” لا “حفظ سلام”، بما يتيح لها العمل ضد حماس ويمنحها هامشاً عسكرياً واسعاً داخل غزة. لذلك فإن تل أبيب تبدو غاضبة من المسار السياسي في النص الأميركي، لكنها ترى في ترتيبات الأمن فرصة لإعادة صياغة الواقع الميداني بما يمنع عودة المقاومة المسلحة.
أما الدول الصغيرة أو المتأرجحة في المجلس مثل اليابان وسويسرا ومالطا وموزمبيق، فتنظر إلى الملف من زاوية تأثيره على الاستقرار الدولي وشرعية الأمم المتحدة. هذه الدول غالباً تنتظر التوافق بين الكبار، لأنها تدرك أن اتخاذ موقف حاد بين الولايات المتحدة وروسيا قد يضعها في زاوية دبلوماسية ضيقة. لذلك فإن أصواتها مرنة ويمكن أن تتحرك نحو النص الأميركي إذا جرى تخفيف الصياغات المثيرة للجدل، أو تميل نحو الامتناع إذا تصاعدت المواجهة بين واشنطن وموسكو.
بهذا يصبح المشهد أكثر وضوحاً: الولايات المتحدة تريد تثبيت “قيادة منفردة”، وروسيا تريد كسر هذه القيادة، والصين تريد استثمار اللحظة لتوسيع نفوذها العالمي، والدول العربية تبحث عن إطار عملي يمنع الفوضى ويضمن مساراً سياسياً، بينما أوروبا تتحرك وفق مزيج من المصالح الأمنية والرغبة في تجنب صدام مباشر مع واشنطن. وبين كل هذه الاتجاهات، سيكون مستقبل القرار مرهوناً بمدى استعداد روسيا لاستخدام الفيتو أو القبول بتعديلات تحفظ ماء الوجه. وفي الحالتين، يتضح أن موسكو ما زالت لاعباً مركزياً، وأن أي صياغة نهائية للقرار لن تمر من دون بصمتها.