كل من تابع ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية خلال أكثر من عام ونصف، على مواقف منظمة الأمم المتحدة، والعديد من دول العالم، بمن فيهم رؤساء بعض الدول العظمى كونيا، أو الكبرى إقليمياً، التي أدانت أو نددت بحرب الإبادة الإسرائيلية على فلسطين عموماً وقطاع غزة خصوصاً، يدرك بأن اليمين الإسرائيلي بأحزابه الثلاثة التي تشكل الائتلاف الحاكم مع حزبي المتدينين اليهود السفرديم ينتمي لحقبة الاستعمار، وما يؤكد أن مثلث أحزاب اليمين الإسرائيلي، هي آخر ما تبقى من مظاهر الاستعمار الذي نبذه عالم ما بعد الحرب الباردة، لما فعله من قهر وقتل واضطهاد واستغلال، إضافة لردود فعله التي تتعارض مع معظم العالم بدوله وزعمائه ومنظماته، هو إصرار ذلك المثلث على مواصلة الحرب، وتوسيع نطاقها بما تشمله من احتلالات إضافية.
ولا يعود السبب في ذلك لمجرد كون هذه الأحزاب تقود «دولة اسرائيل» التي كانت هي نفسها ثمرة لعصر الاستعمار البغيض، بل لكونها ما زالت تعيش في الماضي، تؤمن باللاهوت وأيدولوجيا الكراهية والعزلة، في عصر التداخل الكوني، وكأنها _أي أحزاب اليمين الاسرائيلي، ما زالت تعيش في عالم الحرب الباردة، حيث كان هناك صراع سياسي وحتى عسكري موضعي أي إقليمي بين عالمين، أو حتى أنها ما زالت تعيش قبل ذلك أي في عصر الاستعمار ما بين الحربين العالميتين، بل وأبعد من ذلك، هي مقتنعة بلوثات أيديولوجية مختلطة بين ما هو ديني وسياسي تاريخي وهمي، لفقه المستشرقون لترويج فكرة استعمار الشرق من قبل الغرب، بينما بات في عصر العولمة كل ما يحول دون تداخل الدول والقوميات، إن كان من خلال التبادل التجاري، أو انتقال وتنقل البشر أفراداً وجماعات بين أطراف الكرة الأرضية، وكذلك الإقامة والهجرة والزواج المختلط، فعلا معاكساً لمنطق الحياة المعاصرة.
اللافت للانتباه أن البشرية منذ نحو ثمانية عقود، هي تقريباً عمر دولة اسرائيل، سارت على طريق تعميق الفكر والوعي الانساني على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وأقرت من خلال الاطار العام للنظام العالمي سواء كان ذلك من خلال ثنائي القطبية ابان الحرب الباردة، أو عبر أحادي القطبية الذي تلا انهيار جدار برلين، نقصد بذلك الإطار، الأمم المتحدة بهيئتها العمومية التي تشبه برلمان الدول، بما تجمعه من كل دول العالم في عضويتها على قاعدة من المساواة بغض النظر عن حجم الدول، إن كان بالمساحة الجغرافية أو بعدد السكان، أو بثروتها الاقتصادية أو قوتها العسكرية، وبمجلس أمنها الذي يعد كما لو كان حكومة العالم، بعضويته المكونة من 15 عضواً، منهم خمسة دائمون يتمتعون بحق النقض الفيتو، حيث يكفي أن يمارس واحد من ممثلي الدول الخمس: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، أو بريطانيا، ذلك الحق ضد مشروع أي قرار يناقش في المجلس حتى لا يتم إقراره، ومنهم عشرة يجري تبديلهم كل عامين بين دول العالم أجمع، بحيث يجري اعتماد التنوع بين القارات خاصة أوروبا، أفريقيا وأميركا اللاتينية.
ومن يتابع أو يرصد ما جرى خلال العقود الثمانية من تشكيل هيئات ومنظمات تابعة للأمم المتحدة، أي ممثلة للمجتمع الدولي يدرك المدى الذي قطعته البشرية على طريق محاربة القهر والاستعباد والاستعمار وكل مظاهر قهر الانسان لأخيه الانسان، فقد حاربت منظمات الأمم المتحدة الجوع وما أحدثته الحروب من مجاعة وقتل وتشريد لملايين البشر في غير مكان من الكرة الأرضية، كما تصدت منظمات حقوق الانسان للاستبداد، وواجهت المنظمات المنضوية في اطار الأمم المتحدة الكوارث الطبيعية المختلفة، بما خفف كثيراً من حالة الفقر والمجاعة والمرض، وجعل البشرية أكثر سعادة مما كان عليه حالها من قبل، هذا رغم أن المجتمع البشري كان على صعيد آخر يشهد اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ولم يعد الأمر يقتصر على الأغنياء والفقراء من الدول، بل صار هناك أفراد أكثر ثروة وثراء من العديد من الدول، حيث أن عصر العولمة باقتصاد التكنولوجيا الحديثة والبرمجيات، جعل من أفراد يمتلكون مليارات الدولارات، وفق أرقام تشير دون أي قدر من المبالغة بأن عدداً من أصحاب أو مديري تلك الشركات العابرة للجنسية الكبرى، يراوح عدد أصابع اليدين الاثنتين لدى الواحد منهم ثروة تصل الى مئات المليارات، أي أكثر من الإنتاج المحلي لعشرات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
أهم ما يمكن لحظه، أنه وبعد أن كان السلاح النووي قد شكل رادعاً، أو كابحاً وحتى مانعاً لاندلاع حرب عالمية ثالثة، فإن العولمة قللت كثيرا من اندلاع الحروب العسكرية نفسها، ولم يشهد العالم خلال أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الباردة، سوى ثلاث موجات من الحروب الإقليمية، أولها كان في شرق أوروبا، حيث نتج عن سقوط الأنظمة الشيوعية ظهور النزعات القومية والعرقية، بما أدى الى تفكك اتحادات مثل الاتحاد السوفياتي، الاتحاد اليوغوسلافي، وتشيكوسلوفاكيا الدولة التي كانت مكونة من دولتي تشيكيا وسلوفاكيا، فيما نجم عن تفكك الاتحاد السوفياتي العديد من الدول المستقلة، وكذلك ظهرت دول صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، الجبل الأسود أو مونتينغرو، مقدونيا الشمالية، البوسنة والهرسك عن تفكك يوغوسلافيا، بما أدى الى اندلاع حرب في البلقان نظراً لاختلاف الانتماء الديني للبوسنيين وهو الإسلام، كذلك حدث أمر مشابه حين طالبت كوسوفو بسكانها الألبان، بالاستقلال عن صربيا، فكان أن حارب الناتو الصرب في البلقان، ثم كانت الموجة التالية حين حاربت أميركا العراق وطالبان مع القاعدة، في غرب آسيا وفي آسيا الوسطى.
ثم كانت الموجة الثالثة التي شهدها الشرق الأوسط خلال العقد الماضي أو خلال العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، والتي تعتبر _بتقديرنا على الأقل_ تكملة للحرب التي اندلعت في شرق أوروبا خلال العقد الأخير من القرن العشرين، ويعود ذلك لمحاولة زعيم النظام العالمي الجديد أي أميركا إعادة ترتيب الأنظمة في العديد من الدول ومن ثم الأنظمة الإقليمية والتي كانت قد نشأت وفق منطق الحرب الباردة، على قياس النظام العالمي الجديد، لذلك يحرص قائد مثلث الاستعمار الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على القول، بانه في حربه التي ما زال يشنها منذ عام ونصف، يسعى الى تغيير وجه الشرق الأوسط، أي أنه يقر ويعترف أولاً بأنه شارك الأميركيين في إطلاق ما سمي بالربيع العربي، لإحداث تغيير موضعي وقسري، في أنظمة عربية بعينها، وليس بهدف فتح الأفق للديمقراطية السياسية، بل كان الهدف إسقاط أنظمة غير موالية.
أما ما يقصده نتنياهو بقوله بأنه يغير وجه الشرق الأوسط، فهو أن يزيل كل ما تبقى من أنظمة وجماعات أو قوى مناوئة ليس لأميركا ولا للنظام العالمي، ولكن لإسرائيل، وهو يعتبر نفسه ممثلا للنظام العالمي في الشرق الأوسط، مندوبا عنه، بل حتى شريكا له، أو أنه هو النظام العالمي الإقليمي، لذا يحرص على تحطيم كل القوى العسكرية الإقليمية أولاً، والاقتصادية ثانياً، وبعد العراق التي حطمها بحرب أميركية مباشرة، وبعد سورية وليبيا واليمن والسودان وتونس التي حطمها بالربيع العربي، ما زال يصر على مراقبة القوة العسكرية لمصر والسعودية وحتى الإمارات، فيما يعلن منذ سنوات عن إيران كعدو يريد من أميركا ومن الغرب بل من كل العالم أن يحاربها ويحطم قوتها العسكرية أولا ومن ثم قوتها الاقتصادية ثانيا، ولا يتوقف عند هذا، فهو ينظر بعين الريبة أيضا لتركيا، وبات الثالوث الاستعماري الحاكم في اسرائيل يكمل أحدهم الآخرين في الدور والوظيفة، ويتسابقون في نفس الوقت على طريق التطرف.
ومن يتابع تصريحات هذا الثالوث، ومعهما وزير الحرب، اسرائيل كاتس ووزير الخارجية جدعون ساعر، ووزيرة الاستيطان أوريت ستروك، لا يبقى لديه أدنى شك، من كون هؤلاء بما يمثلونه، عبارة عن أشخاص يعيشون في عصر الاستعمار، وأنهم يظهرون علناً وبصراحة ودون اكراه كل ما تميزت به الفاشية من كراهية وعنف للآخرين، ولم يعد عداء اليمين الإسرائيلي قصراً على الفلسطينيين كلهم، بدافع قومي عنصري، الى حد نفيهم عن الوجود، بشرياً بعد نفيهم السياسي، وهم يصفون الدولة الفلسطينية التي تعترف بها مئة وخمسون دولة في العالم بأنها وهمية، لكن عداءهم بات للمجتمع البشري بأسره، ويدل على هذا ما يصفون به أمين عام الأمم المتحدة، بل المنظمة الدولية، من عداء للسامية، وما يقوله نتنياهو عن الرئيس الفرنسي، وما يصف به جدعون ساعر الدولة الإسبانية، كذلك ما يقوله كاتس ونتنياهو عن أردوغان، كل هذا دال على انهم يعادون معظم العالم، لكل هذا تحذر مؤسسات دولة إسرائيل العميقة من خطر نتنياهو على مستقبل إسرائيل نفسها.