نشر بتاريخ: 2025/11/15 ( آخر تحديث: 2025/11/15 الساعة: 20:59 )
علي أبو حبلة

جدل المساواة وعدم المساواة: بين الثروة والثورة… ومن الفلسفة إلى فلسطين

نشر بتاريخ: 2025/11/15 (آخر تحديث: 2025/11/15 الساعة: 20:59)

الكوفية لا ينفصل سؤال المساواة عن طبيعة الصراع الإنساني. فقد شكّل هذا السؤال محورًا لتطور الفلسفة، وأساسًا لبناء الدول، ومحركًا للثورات الكبرى منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم. وكلما توسعت الفجوة بين من يحتكرون الثروة والسلطة وبين من يبحثون عن العدالة، ازداد هذا السؤال إلحاحًا. وفي عصرنا الحالي، يتجسد هذا الجدل بأشد صوره قسوة في فلسطين، حيث تتحول اللامساواة إلى منظومة استعمارية مُحكمة، لا تكتفي بالتمييز، بل تُشرعن الفارق وتبني عليه نظامًا سياسيًا واقتصاديًا متكاملًا.

أولًا: من الفروق الطبيعية إلى صناعة اللامساواة

يولد الناس بفروق طبيعية في القدرات، لكن المجتمعات الحديثة قامت على فكرة تجاوز هذه الفروق عبر القانون والعدالة وسياسات تكافؤ الفرص. غير أن التجربة الفلسطينية تكشف كيف تُحوَّل الفروق إلى أدوات قهر، وكيف يصنع الاحتلال عبرها نظامًا منضبطًا يعيد إنتاج الفقر والبطالة والتهميش.

فالاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يصنع بيئة لا مساواة ممنهجة من خلال:

تقسيم قانوني ثنائي بين المستوطن والفلسطيني.

تقييد الحركة وتقليص المجال الحيوي للسكان.

مصادرة الموارد، وخاصة الأرض والمياه.

تفكيك البنية الإنتاجية الفلسطينية وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد تابع.

إن هذه المنظومة لا تُنتج عدم مساواة اجتماعية فحسب، بل تُنتج لامساواة استعمارية تُضعف المجتمع الفلسطيني وتستهدف تفتيته.

ثانيًا: جذور اللامساواة… من الفلسفة اليونانية إلى الفكر الاستيطاني

أعاد المشروع الاستيطاني إنتاج هرم التفوق الذي طرحه أرسطو قبل ألفي عام، حين صنّف البشر إلى فئات ودرجات. واليوم، تتبنى القوى اليمينية في إسرائيل تصورات مشابهة، تقوم على:

تفوق المستوطن على صاحب الأرض.

شرعنة القوة باعتبارها مصدر الحق.

إقصاء الفلسطيني ونفي أهليته السياسية.

تحويل “الأفضلية الدينية” إلى قاعدة لامتلاك الأرض.

وهذه النظرة ليست مجرد خطاب سياسي، بل أصبحت أساسًا لسياسات التوسع والاستيطان والضم، ولتغذية أيديولوجيا تعتبر الفلسطيني “مشكلة ديموغرافية” بدلًا من كونه إنسانًا له حقوق متساوية.

ثالثًا: الديانات التوحيدية… المساواة كقيمة مؤسسة للعدالة

في مقابل هذه التصورات الهرمية، جاءت الديانات التوحيدية بفكرة ثورية:

أن البشر جميعًا خلقوا من نفس واحدة، وأن الكرامة حق أصيل لا يمنحه أحد ولا يسلبه أحد.

ولذلك، فإن النضال الفلسطيني يستمد جانبًا كبيرًا من قوته الأخلاقية من هذه القاعدة التي تقف ضد الاستعلاء والاستيطان والتمييز. فالصراع الدائر اليوم ليس صراعًا على الأرض فقط، بل هو صراع على حق الإنسان في أن يُعامل على أنه إنسان.

رابعًا: القانون الدولي وفضيحة الازدواجية

رغم أن منظومة القانون الدولي الحديثة قامت على مبدأ المساواة، إلا أن تطبيق هذا المبدأ على فلسطين يكشف خللًا جوهريًا. فالعالم:

يرفض التمييز العنصري، لكنه يتعايش مع أبارتهايد واضح في فلسطين.

يضمن حق الشعوب في تقرير المصير، لكنه يعجز عن فرضه على الرغم من عشرات القرارات الأممية.

يدين الاستيطان، لكنه يسمح باستمراره دون عقاب.

وهذه الازدواجية لا تضر فقط بالفلسطينيين، بل تهدد شرعية النظام الدولي نفسه الذي يفقد معنى المساواة عندما يُطبق بانتقائية سياسية.

خامسًا: النيوليبرالية في ظل الاحتلال… حين يصبح الاقتصاد أداة حرب

في عالم يزداد فيه تركّز الثروة بيد القلة، تتجلى النيوليبرالية في فلسطين بشكل أكثر قسوة. فالاحتلال يحاصر الاقتصاد الفلسطيني بآليات تتحكم في:

المعابر والحدود.

الموارد الطبيعية.

حركة العمال.

التجارة والسوق الداخلية.

الضرائب والجمارك.

وتحت هذه القيود، يُعاد إنتاج الفقر والبطالة، ويُعمَّق التفاوت الطبقي داخل المجتمع، ما يجعل التوتر الاجتماعي جزءًا من الحالة اليومية للشباب الفلسطيني الباحث عن الأمل والفرصة والكرامة.

سادسًا: فلسطين… بين الثروة المحتكرة والثورة المستمرة

الصراع في فلسطين ليس صراعًا على جغرافيا فقط، بل هو صراع بين:

ثروة يحتكرها الاحتلال بالقوة،

عبر السيطرة على الأرض والمياه والقدرات، وتحويل المستوطنات إلى جزر ثراء محمية بالقانون والسلاح.

وثورة يصنعها الفلسطيني يوميًا،

من خلال التمسك بالحق والمطالبة بالمساواة ومقاومة منظومة الإقصاء.

وهذه الجدلية — ثروة مقابل ثورة — تفسر تماسك الشعب الفلسطيني رغم كل الضغوط، لأن اللامساواة الفادحة تخلق حالة وعي مقاوم تتراكم عبر الأجيال.

سابعًا: نحو مشروع فلسطيني للعدالة والمساواة

إن صناعة المساواة داخل المجتمع الفلسطيني لا تقل أهمية عن المطالبة بها من الخارج. وهذا يفرض رؤية واضحة تقوم على:

1. تجديد النظام السياسي استنادًا إلى الشراكة والديمقراطية.

2. إعادة بناء الاقتصاد على قاعدة الإنتاج لا الاستهلاك.

3. مواجهة الفساد والاحتكار لحماية الطبقات المستضعفة.

4. مأسسة النضال القانوني الدولي لكشف الأبارتهايد.

5. تعزيز العدالة الاجتماعية كجزء من مشروع التحرر الوطني

وخلاصة القول إن الكرامة هي جوهر الصراع وأن المساواة ليست امتيازًا يمنحه الأقوى للأضعف، بل هي حقٌ وجودي يرافق الإنسان منذ ولادته. وفي فلسطين، تبرز هذه الحقيقة كل يوم، لأن الشعب الفلسطيني يخوض معركة مركّبة:

ضد ظرف طبيعي قاسٍ،

وضد نظام سياسي واقتصادي عنصري،

وضد عالم يتردد في تطبيق مبادئه.

ومع ذلك، يواصل الفلسطيني رفع صوته دفاعًا عن الإنسان، وعن الحق، وعن الكرامة التي لا تسقط بالتقادم.

فالصراع على المساواة هو صراع على معنى العدالة، وفي النهاية…

لا يمكن لمنظومة تقوم على الظلم أن تصمد أمام شعب يؤمن بحقه وقدرته على صناعة المستقبل.