كاتم الصوت لا يُرعب الحروف.. اعتقال د. ناصر اللحام: الاحتلال يخشى الكلمة حين تلامس الحقيقة

بن معمر الحاج عيسى
كاتم الصوت لا يُرعب الحروف.. اعتقال د. ناصر اللحام: الاحتلال يخشى الكلمة حين تلامس الحقيقة
الكوفية في ظلمة فجرٍ جديد من فصول القمع المستمر، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزل الإعلامي الفلسطيني البارز الدكتور ناصر اللحام في بلدة الدوحة قرب بيت لحم، وعاثت فيه خرابًا، قبل أن تعتقله بعنفٍ وهمجية لا تحمل سوى رسالة واحدة: الخوف من الكلمة حين تتحول إلى سلاح مقاومة.
لا شيء يبرر هذا الاعتقال سوى هوس الاحتلال بإسكات كل صوت حرّ، وكل قلم يكتب بالحبر الوطني، وكل وجهٍ صار مرآة لوجع شعبٍ تُصادر يومياته تحت الاحتلال، وتُرسم معاناته بالدم.
الدكتور ناصر اللحام، ليس فقط رئيس تحرير وكالة "معا" الإخبارية، ولا فقط مدير مكتب قناة الميادين في فلسطين، بل هو من الأصوات القليلة التي لم تخن الخطاب ولا تساومت في الموقف، ظلّ شاهداً ومرافقاً ومفسرًا لما يجري على الأرض الفلسطينية منذ سنوات طويلة، جامعًا بين الصدق المهني والالتزام الأخلاقي، ومكرّسًا حضوره في كل بيت فلسطيني وعربي يبحث عن فهم المعركة خارج ضجيج التزوير الإعلامي.
مداهمة منزله فجرًا، وتحطيم محتوياته أمام عائلته، وتحويله إلى محكمة عوفر العسكرية، هو عمل جبان يعبّر عن خوف الاحتلال من صوتٍ راكم ثقةً وجماهيريةً وتأثيرًا في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي. فالاحتلال يدرك تمامًا أن البنادق لا تهزم الأفكار، وأن سطوة العسكر لا تستطيع أن تطفئ بصيرة الصحافة حين تكون نابعة من أرضٍ تعرف وجعها وتواجهه كل صباح.
جاء الاعتقال دون تهمة واضحة، كما هو ديدن منظومة الاحتلال العسكرية التي تحتقر القانون وتدوس المعايير الإنسانية حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين، وخاصة أولئك الذين يملكون من التأثير ما يجعلهم خطرًا أكبر من الرصاص. فالدكتور ناصر اللحام، بحضوره الإعلامي الهادئ والعميق، وبمقالاته وتحليلاته الحاذقة، يمثل خندقًا منيعًا في معركة الرواية، وجدارًا دفاعيًا في وجه محاولات كيّ الوعي وسرقة الحقيقة.
إنّ تحويله إلى محكمة عوفر، وإبقاؤه قيد التوقيف، ما هو إلا محاولة فاشلة لإرهاب الإعلام الحرّ، وتهديد لكل من يحاول أن يقول للعالم: إن ما يحدث في فلسطين ليس مجرد نزاع، بل احتلال ممنهج، واستعمار استيطاني، ومشروع قمع شامل يستهدف البشر والحجر، والهوية واللغة، والبيت والذاكرة.
اللافت أن هذا الاعتقال يأتي في سياق تصاعد الهجمة الإسرائيلية على الأصوات الإعلامية، خاصة مع تنامي التفاعل الدولي مع الجرائم المرتكبة في قطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس. وهي محاولة يائسة من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتكميم الأفواه، عبر الاعتقالات والترويع، بعد أن فشلت في وقف تسرب الحقيقة إلى الرأي العام العالمي، حتى من بين ثنايا الأنقاض والدم.
الدكتور ناصر اللحام ليس أول الصحفيين الذين يطاردهم الاحتلال، وربما لن يكون الأخير، لكنه واحد من أعمدتهم، من أولئك الذين لا يكتفون بالخبر، بل يعيدون تشكيله بإحساس المثقف، وضمير المقاوم، وحدس الكاتب الذي يرى ما وراء الصورة ويقرأ ما بين السطور. وقد أثبت خلال سنوات عمله أن الإعلام المقاوم ليس شعارًا، بل مسؤولية أخلاقية ومهنية وإنسانية، وهو ما جعله مستهدفًا، لا بالتحريض فقط، بل اليوم بالاعتقال.
إن هذا المشهد بكل ما فيه من عنفٍ وترويع، لا يزيدنا إلا إيمانًا بأن المعركة لم تعد تُخاض فقط بالبندقية، بل بالكلمة الصادقة، بالصوت الحر، بالصورة التي تفضح وتوثق، وبالرواية التي تتحدى رواية الجلاد. اعتقال ناصر اللحام هو اعتقال للوعي الفلسطيني، للحق في الكلام، للحق في أن نكون شهودًا على مأساتنا، لا ضحايا صامتين.
لكن ما لا يدركه المحتل، هو أن الكلمة حين تُعتقل، تصبح أكثر نقاءً، أكثر التماعًا، وأكثر خطرًا. وأن أصواتًا مثل ناصر اللحام، حتى خلف القضبان، تواصل الاشتغال في وعي الناس، وتواصل تحريض الحقيقة على كسر القيود.
هذا الاعتقال لن يرهب الصحافة، ولن يُخضع الرواية الفلسطينية، بل سيثبت للعالم مرة أخرى أن الاحتلال لا يخشى السلاح، بقدر ما يخشى الحبر حين ينحاز للإنسان، والعدسة حين تلتقط الجرح، والميكروفون حين ينقل صوت المجزرة.
وإذا كان الاحتلال يراهن على إسكات ناصر اللحام، فإنه سيكون قد أخطأ التقدير. لأن ناصر ليس فردًا، بل حالة، وتيارًا، وروحًا جمعيّة تعلّمت أن تكتب على الجدران، وتصرخ في الأنقاض، وتقول للعالم: نحن هنا... ولن نصمت.