الإسلاميون في دائرة الاستهداف.. ضغوطات الواقع وضرورات الانفتاح !

أحمد يوسف
الإسلاميون في دائرة الاستهداف.. ضغوطات الواقع وضرورات الانفتاح !
الكوفية منذ أن اندلعت حرب الإبادة على قطاع غزة، والتي فاقت في عنفها ووحشيتها كلَّ التصورات، انكشفت هشاشة المواقف الرسمية العربية والإسلامية، بل وسقوطها الأخلاقي في كثير من الأحيان.
لم تقتصر المأساة على حجم الدمار وسقوط آلاف الضحايا من المدنيين، بل امتدت إلى صدمة أكبر: صمت العالم، وتواطؤ الغرب، بل ومشاركته في الجريمة من خلال الدعم السياسي والعسكري واللوجستي لإسرائيل، تحت ذرائع وادعاءات مفضوحة.
لقد بدا واضحًا أنَّ النظام الدولي برمّته يكيل بمكياين، ويدار بمعيار مزدوج، يُدين ضحايا الاحتلال، ويتغاضى عن جرائم المحتل، فيما يقف الشارع العربي والإسلامي عاجزًا، مكبّلاً بالمخاوف أو مُنهمكًا في أزماته الداخلية.
وكان الأشد مرارة أن بعض العواصم العربية والإسلامية، بدلاً من دعم صمود الشعب الفلسطيني، ساهمت -بشكل مباشر أو غير مباشر- في تحميل الضحية مسؤولية ما جرى، بذريعة مواجهة حركة حماس ووقف مشروعها المقاوم.
ولأنَّ حماس تُصنّف في نظر بعض الأنظمة بوصفها امتدادًا لمحور إقليمي تُخشى تداعياته، فإن شيطنتها باتت غطاءً ناعمًا للسكوت عن الإبادة الجماعية، وتبرير العجز الرسمي، بل وربما التآمر على المقاومة. لقد تحوّلت بعض الأنظمة -للأسف- إلى خصم داخلي لشعوبها، وللأمة، قبل أن تكون خصمًا لـحركة حماس.
في ظل هذا الواقع، بات لزامًا على الإسلاميين -وقد كانوا دومًا حَمَلَة المشروع النهضوي للأمة- أن يعيدوا النظر بجرأة وصدق في خطابهم السياسي والدعوي، ويقرأوا الواقع بمنظار نقدي لا عاطفي، يتجاوز الإنكار والمظلومية إلى المبادرة والفعل.
تصويب المسار .. مسؤولية لا تحتمل التأجيل
أمام حجم التحديات المتصاعدة، يجب على الإسلاميين أن يتبنوا رؤية إصلاحية شاملة، تشمل عدة محاور، منها:
1. الانفتاح السياسي والمرونة البراغماتية
يجب مغادرة الخطابات المؤدلجة والمتشددة نحو خطاب سياسي واقعي، عقلاني، يوازن بين المبادئ والمصالح، ويستفيد من تجارب الإسلاميين في دول كتركيا والمغرب، حيث تمكنوا -نسبيًا- من الاندماج في الحياة السياسية وتحقيق منجزات دون التفريط بالثوابت.
2. فك الارتباط بالعنف والتأكيد على السلمية
ضرورة التبرؤ العلني والواضح من كلِّ أشكال العنف المسلح في الساحات الداخلية، أو تلك التي تُرتكب باسم الإسلام زورًا، وذلك لحماية المشروع الإسلامي من التصنيف الإرهابي، ولمواجهة الذرائع التي تفتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية والتضييق الأمني.
3. ترتيب أولويات المشروع الإسلامي
يتعين على الإسلاميين أن يعيدوا ترتيب أولوياتهم؛ فالعودة إلى التربية الأخلاقية، والعمل الاجتماعي، وخدمة الناس، يجب أن تتصدر جدولهم الدعوي، مع ترك إدارة الشأن السياسي لمن يملك أدواته ومعرفته ومتطلباته، إن لم يكونوا هم مؤهلين بعد لذلك.
4. بناء علاقة إيجابية مع الأنظمة السياسية
إن الجنوح إلى التصعيد والمواجهة مع الأنظمة لم يَجْنِ ثماره سوى في الدمار والدماء. الأجدر هو السعي إلى بناء جسور تواصل، والبحث عن قواسم مشتركة، وتوطين شعور الدعم والمناصرة للأنظمة ضد كلّ تهديد خارجي، في إطار شراكة تحفظ الاستقرار وتحقق المصلحة الوطنية.
5. الاستفادة من الحضور الإسلامي في الغرب
إنَّ ملايين المسلمين في الغرب يشكلون فرصة ذهبية لتحسين صورة الإسلاميين، والترويج للفكر الإسلامي الوسطي، وتصحيح الصورة المشوهة التي ترسخت بعد أحداث العنف والصراعات. المطلوب دعم مؤسسات الجاليات الإسلامية لتكون منصات تواصل حضاري لا جبهات مواجهة.
6. دمج الرؤية الإسلامية بالحسابات الوطنية
إنَّ الرؤية الإسلامية -بشموليتها- يجب أن تتناغم مع الواقع الوطني، وتحترم سيادة الدولة، وهويتها الجامعة، ولا يجوز أن يُنظَر إلى الإسلاميين وكأنهم مشروعٌ عابرٌ للحدود، أو فوق الدولة، بل يجب أن يكونوا شركاء في بناء الدولة، لا متجاوزين لها.
7. إدانة الفكر المتطرف والتكفيري
في الحقيقة، يجب أن يكون الإسلاميون في مقدمة من يفضح الفكر المتطرف، ويفكك خطاباته، ويرفض ثقافة الإقصاء والتكفير.
إن التنديد العلني بالفكر العنيف، وتقديم بدائل فكرية ناضجة، يمثل حماية للتيار الإسلامي ذاته، وتجديدًا لمصداقيته في عيون الشعوب.
8. تبني نهج المراجعة الدائمة
إنَّ الحركة الإسلامية التي لا تُراجع نفسها، ولا تستفيد من تجاربها، هي حركة مرشحة للتآكل والعزلة، فالنقد الذاتي ليس تهديدًا للوحدة، بل تجديدٌ للحياة، وتصحيحٌ للمسار، وضمانٌ للاستمرار في بيئة متغيرة وسياق دولي لا يرحم الضعفاء.
تحولات فكرية لافتة... نحو خطاب واقعي ووسطي
من اللافت خلال السنوات الأخيرة، أن عددًا متزايدًا من الرموز الفكرية والدعوية والسياسية المحسوبة على التيار الإسلامي بدأت تميل نحو خطاب أكثر توازنًا وواقعية، يدعو إلى وسطية السلوك، وتبني علاقات عقلانية مع الأنظمة العربية، والتخلي عن منطق الصدام أو التحدي العبثي. هذه التحولات لا تعكس فقط نضجًا فكريًا، بل أيضًا قراءة عملية لتطورات المشهد الإقليمي والدولي.
في المغرب، يبرز د. سعد الدين العثماني بقوله: علينا أن ندرك أن الإصلاح لا يمكن أن يتم ضد الدولة، بل بالتعاون معها".
أما د. أحمد الريسوني، فدعا إلى فقه الموازنات، قائلاً: من لا يراعي الواقع في اجتهاده، فاجتهاده باطل أو قاصر".
في الجزائر، دعا الشيخ أبو جرة سلطاني إلى الاندماج الواعي في مؤسسات الدولة. وأكد د. عبد الرزاق مقري أن: العمل من داخل النظام هو الطريق الأسلم لحماية البلاد".
بينما شدد د. فاروق تيفور على أن:ا لإسلام السياسي لن يكون له مستقبل ما لم يطور علاقته مع الدولة".
في مصر، رأى د. محمد سليم العوا أن: المجتمعات لا تُقاد من على المنابر فقط"، بينما أكد هشام جعفر أن: "التحول من خطاب الجماعة إلى خطاب الأمة يتطلب عقلًا يعترف بتعقيدات الدولة".
في الأردن، دعا د. رحيل غرايبة إلى مشروع وطني جامع، وقال د. صبري سميرة: "إن المراجعة فضيلة، والتعاون مع النظام حين يكون في خدمة الوطن لا ينتقص من الموقف بل يعززه".
أما في فلسطين، فقد أكد الشيخ عماد حمتو أن: السياسة الشرعية ليست معركة شعارات"، بينما قال الشيخ فيصل مولوي (رحمه الله): العمل الإسلامي ينبغي أن يكون إصلاحيًا في صلب الدولة لا خصمًا دائمًا لها".
ومن السودان، قال د. جعفر شيخ إدريس: العمل الإسلامي إن لم يُقَم على فقه المقاصد وفهم السنن والوعي بالواقع، فسيتحوّل إلى حماسٍ معزول عن الحكمة".
كلُّ هذه المراجعات تعكس نضجًا داخل أوساط التيار الإسلامي، وتؤشر إلى إدراك متنامٍ بأن المرحلة لم تعد تتحمل خطاب المواجهة أو منطق التغيير القسري، وأن فرص الإصلاح الحقيقي تكمن في التفاهمات لا في التناحر، وفي البناء التراكمي لا في الهدم الثوري.
ختاماً، إن لم تتجدد آليات العمل الإسلامي، فإن السنن الكونية لا تحابي أحدًا، وسيدفع الإسلاميون ثمن الجمود والتكلّس، إذ إنَّ مستقبل الإسلام السياسي مرهون بقدرته على التجدد والتكيف، فالسنن الإلهية لا تجامل، ومن لا يغيّر يُستبدل.