ما جرى في اليوم الأوّل، لبدء الشركات الأمنية الأميركية الإسرائيلية توزيع المساعدات في منطقة رفح، ينطوي على دلالات عديدة.
أولى هذه الدلالات، تأكيد المؤكّد من أن أميركا تواصل دعمها المطلق لحرب الإبادة والتجويع والتهجير الذي تعتمده حكومة الاحتلال، وأن ما يجري هو تبادل للأدوار في إطار الخطة ذاتها.
في هذا الصدد، فإن ما يجري على ساحة المفاوضات من أجل التوصل إلى صفقة تبادل، وتفويض مبعوثي الإدارة الأميركية، إن كان برضا، أو بغير رضا نتنياهو، هو تأكيد آخر، على أن أميركا لم تكن، وهي ليست وسيطاً وإنما هي طرف أساسي في الصراع.
المبعوثون الأميركيون، يواصلون استنزاف الوقت، على وقع تصعيد إسرائيلي شامل في قطاع غزة، بأمل أن يؤدي هذا التصعيد إلى تمكين الأميركيين من فرض شروط نتنياهو على طاولة المفاوضات.
ينفي السلوك الأميركي كل ما يصدر عن المسؤولين الأميركيين، من أنهم بدؤوا يفقدون صبرهم، رغم علمهم الأكيد بالدوافع السياسية والشخصية التي تقف خلف نتنياهو لمواصلة الحرب العدوانية.
لم يعد ثمة مجال لبيع وهم، المراهنة على مهل يقدمها دونالد ترامب لنتنياهو، وأن هذه المهل على وشك النفاد.
الإدارة الأميركية تواصل شراكتها مع «الائتلاف الحكومي الفاشي الإسرائيلي مقابل امتناع نتنياهو عن عرقلة وإفشال المفاوضات الأميركية الإيرانية.
ثاني هذه الدلالات، أن العرب الذين أهدوا ترامب التريليونات لا يوظفون هذه الأموال بالقدر الذي يضع أميركا، أمام ضرورة تغيير سياساتها تجاه الحرب على قطاع غزة والتستُّر في الوقت ذاته على التصعيد الإسرائيلي الخطير في الضفة والقدس.
دولة الاحتلال تقرر إنشاء 22 مستوطنة جديدة في الضفة، وتصعّد الانتهاكات بحق القدس والمسجد الأقصى، دون أن يصدر عن الإدارة الأميركية ومن قدموا لها الأموال، أي مواقف إزاء المخاطر والتهديدات التي ظهرت خلال مسيرة الأعلام الإسرائيلية في مناسبة احتلال القدس.
ثالث هذه الدلالات، يتصل بدور عسكري أميركي مباشر عبر الشركات الأمنية، بغطاء توزيع المساعدات، حيث يفترض أن يؤدي البدء بتوزيع المساعدات، إلى تهجير الناس من شمال ومدينة غزة إلى الجنوب، تحت ضغط عسكري، وتحت ضغط الحاجة للطعام، كخطوة نحو تحويل ضغط السكان، لاقتحام الحدود، نحو مصر.
رابع هذه الدلالات، يتعلّق بهدف إنهاء دور المؤسسات الأممية بما في ذلك «الأونروا»، ومؤسسات الأمم المتحدة، ليس فقط بالنسبة لتوزيع المساعدات، وإنما لإنهاء وجودها في القطاع بالكامل.
خامس هذه الدلالات، يتعلق بهدف إذلال الجوعى الفلسطينيين وإظهارهم، وكأنهم همج، لا يستحقون الحياة، بل إنهم يستحقون الموت، إلّا إذا اختاروا حياة أخرى، خارج أرضهم.
كان من الطبيعي أن تظهر مشاهد الآلاف من الجوعى، على النحو الذي ظهرت فيه، والتي جعلت نتنياهو ومسؤولين أميركيين يتحدثون عن نجاح آلية توزيع المساعدات.
أنعشت مشاهد فشل المرحلة الأولى، من آلية توزيع المساعدات قريحة نتنياهو، والإعلام الإسرائيلي، لتقديم المزيد من الروايات الكاذبة والمتناقضة.
الجوعى اجتاحوا مركز التوزيع، ودمّروا، وأخذوا كل محتوياته، فيما هرب الفريق الأميركي المسلّح، دون أن ينجح التدخل العسكري من قبل جيش الاحتلال في إنقاذ أي شيء من محتويات مركز التوزيع.
تتحدث دولة الاحتلال عن أن «حماس»، أقامت حواجز عسكرية تمنع الناس من الانتقال، والوصول إلى مركز التوزيع، والسؤال: لماذا لم يبادر جيش الاحتلال إلى قصف تلك الحواجز بينما يقتل عشرات بذريعة وجود عنصر من «حماس» في المكان المستهدف.
والحال أن حجم المساعدات التي وصلت إلى مركز التوزيع، ليس سوى قطرة في محيط الحاجات كما دأبت مؤسسات الأمم المتحدة، على القول.
وفي الواقع، فإن الإعلام الإسرائيلي يتحدث عن أن إسرائيليين متطرّفين، يقطعون الطريق أمام الشاحنات التي تحمل المساعدات، قبل أن تصل إلى «كرم أبو سالم».
المهم دائماً أن ثمة ذرائع، للتنصل من التعطيل المتعمّد لوصول المساعدات إلى مستحقيها، غير أن كل هذه الذرائع التي تخلقها وتسوّقها حكومة الاحتلال لأسباب عدم تدفق المساعدات، لم تعد تقنع أحداً، ولم تعد تكفي لتغطية السياسة الإسرائيلية التي تواصل استخدام التجويع كسلاح حرب تدينه كل الشرائع الدولية.
العالم لم يعد يستمع للروايات الإسرائيلية، وقد أخذت تتصاعد ردود الفعل، خصوصاً من قبل أوروبا الغربية، بما في ذلك أقرب حلفاء الدولة العبرية.
بعض الدول الأوروبية، شرعت في اتخاذ عقوبات بحق دولة الاحتلال وأمام استمرار حرب الإبادة والتجويع والتهجير، فإن الباب مفتوح على مصراعيه، لتصعيد الضغوط، والعقوبات بما يجعل دولة الاحتلال منبوذة، وخارجة عن كل القوانين والقيم الدولية.
حرب التهجير لا تزال مستمرة، لا يمكن لأحد التكهّن بمآلاتها، وإذا ما كانت ستنجح أم ستفشل، ولكن حتى الآن يمكن التعويل على صمود الفلسطينيين رغم ما يكابدونه، ورفض مصر والعرب، وكل العالم لهذه السياسة.
ستفعل دولة الاحتلال كل ما تستطيع، وهي تحشد مئات الآلاف من جنود الاحتياط، من أجل ما تقول حكومة الاحتلال بأنها ستباشر إلى تصعيد شامل لكل القطاع، وكأن جيش الاحتلال قصّر في فعل ما يستطيع.
وبرأينا فإنه إذا تأخر يأس نتنياهو و»ائتلافه»، فإن الإدارة الأميركية ستصل إلى مستوى اليأس، أمام الفشل الإسرائيلي وانهيار منظومة القيم، والضغط الدولي المتزايد.