نوبل على مقاس المجرمين: عندما يُمنَح صك الغفران لمن يغذّي الإبادة

بن معمر الحاج عيسى
نوبل على مقاس المجرمين: عندما يُمنَح صك الغفران لمن يغذّي الإبادة
الكوفية في مشهد ساخرٍ كُتب بلون الدم ووقعته يد الطغيان، يخرج بنيامين نتنياهو من قلب جحيم غزة، حاملاً باقةً من القتل والرماد، ليقدّم مرشحه لنيل "جائزة نوبل للسلام"؛ دون أن يرفّ له جفن، يقترح اسم دونالد ترامب، الداعم الأكبر لانقلابه على القانون الدولي، والراعي الرسمي لصلفه الاستيطاني وحربه المفتوحة ضدّ كل ما تبقى من إنسانية في هذه البقعة من الأرض. لكنّ الصدمة، وإن لم تكن جديدة، فجّرت الغضب لدى من تبقّت لديهم بقايا ضمير في هذا العالم، وعلى رأسهم جوزيب بوريل، الممثل الأعلى السابق للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، الذي وصف هذا الترشيح بأنه وصمة جديدة في جبين النظام العالمي، حين قال بوضوح دامغ: "مجرم حرب مزعوم، مطلوب للعدالة الدولية، يرشّح أكبر مورّد أسلحة له لجائزة نوبل للسلام، وهو المورّد نفسه الذي يساعده في تنفيذ أكبر عملية تطهير عرقي في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية". ما الذي تبقّى من السلام حين يتحوّل المجرم إلى ضحية، والمزوّد بالسلاح إلى حمامة سلام؟ كيف نقرأ هذا الانقلاب الأخلاقي، وهذا التواطؤ الصارخ بين الجلاد والسند؟ لا نتحدث هنا عن مفارقة أدبية أو عن نكتة سوداء عابرة، بل عن واقع يتكرر بدموية منتظمة، وعن جائزة كان يفترض أن تُمنح للذين ينقذون الأرواح، فإذا بها تتحوّل إلى وسام شرف لمن يزهقها. جائزة نوبل للسلام، التي حملت في تاريخها أسماء لامعة كـ مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا ومحمد البرادعي، باتت اليوم مهدّدة بأن تتحوّل إلى أداة غسيل للجرائم، ومنصة سياسية لتبييض وجوه ملوّثة، لا تسير إلا على جماجم الأبرياء. لا شيء يبرر أن يُمنح ترامب، وهو من نقل سفارة بلاده إلى القدس متحديًا القرارات الأممية، ومن بارك ضم الجولان، ومن موّل بقاء إسرائيل كدولة فصل عنصري، مثل هذا الوسام، سوى الانحطاط الأخلاقي الذي بلغه العالم، حيث يكرّم العنف إذا صيغ بلغة الأقوياء، وتُمنح جائزة السلام لمن يملك القنابل الذكية والطائرات التي تفتك بالأحياء. في المقابل، يُدفن الفلسطينيون تحت الركام بلا أسماء، بلا مرافعة، بلا صحافة عالمية تتذكرهم، سوى في لحظات الاستغاثة العابرة، بينما يتقدّم قتلتهم بطلبات ترشيح إلى لجان "السلام" العالمية بثقة المنتصرين. وإذا ما تساءل العالم كيف يُذبح الفلسطيني كل صباح، فالإجابة تكمن هنا: في صفقات السلاح، في البيانات السياسية المضلّلة، وفي الجوائز المزيفة التي تمنح صكوك الغفران للجلادين. لقد سقط القناع عن المسرحية، والممثلون لم يعودوا يكترثون حتى لإتقان الدور؛ نتنياهو لا يخجل من المجاهرة بجرائمه، وترامب لا يحتاج إلى تبرير أي موقف ما دام يضمن أصوات اللوبيات، ولجان الجوائز لا تجد حرجًا في قبول ترشيح الدم بديلاً عن الزيتون. وحده صوت بوريل يعلو وسط هذا الضجيج، ليقول ما لا تريد المؤسسات الأممية أن تسمعه: إن ما يحدث هو تطهير عرقي صريح، وإن من يموّله ويدعمه لا يجب أن يُكافأ بل يُحاكم. هكذا ببساطة، من قلب السياسة الأوروبية، من فم رجلٍ يعرف معنى الدبلوماسية ومعنى القانون، خرجت الجملة الأخطر: "منفذو الإبادة يُمنَحون جوائز". هنا، لا نقف على حافة العبث فقط، بل نتدحرج معه إلى هاوية الأخلاق. ما يحدث في غزة ليس "صراعًا"، بل مذبحة ممنهجة، ترتكب على مرأى من العالم، تحت حماية الطائرات الأمريكية، وبغطاء دبلوماسي من الإدارات المتعاقبة، والآن يريدون إضفاء القداسة على هذا الجحيم عبر جائزة للسلام؟ أي سلام؟ لمن؟ على حساب من؟ إنها نوبل المهزلة، حين تصبح الجائزة أداة طمس لا تكريم، وسلاحًا دعائيًا لا تكريسا للعدالة. ستظل كلمات بوريل صفعة للتاريخ، وستبقى دماء أطفال غزة شاهدة على عار هذا العالم. أما نوبل، فلن تكون بعد اليوم رمزًا للسلام، بل شهادة زور ممهورة بتوقيع المتواطئين.