الكوفية:لا يستطيع أحد أن يلوم من التبست عليهم الأمور في هذه الحرب الهمجية على الشعب الفلسطيني، وذلك لأن درجة بربريّتها فاقت كل الحدود، والخسائر التي تكبّدها الشعب الفلسطيني جرّاء مثل هذه الحرب فاقت كل تصّور، مهما كانت درجة القدرة على التخيّل أو التوقّع.
ولا يستطيع العقل المهزوم من داخله، أو العاجز عن مواكبة تفاعلات الأحداث الكبرى وأثرها المباشر والبعيد، قراءة اتجاهات التطور وتقرير مسارها.
لسنوات طويلة جرى ترويض العقل العربي، والفلسطيني على وجه خاص نحو، وباتجاه حالة الاستكانة، والتأقلم معها، والمراهنة على أن من رحم هذه الاستكانة يمكن أن تنبثق حالة إيجابية بالاستناد إلى منطق العدالة، ومنطق شرعة حقوق الإنسان، أو حتى من رحم الارتقاء «الديمقراطي» في المجتمعات العربية، ومن ضمنها المجتمع الفلسطيني نحو تغيّرات قد تتيح لهذه المجتمعات الانخراط في منظومات عالمية قادرة على رفع الظلم عنها، وعن قضاياها الوطنية وتلك الاجتماعية.
تطويع الواقع العربي الفلسطيني كان عملية طويلة، منظمة من حيث التخطيط لها، ومن حيث تحديد أهدافها، ومن حيث اختيار أدواتها، ومن حيث النماذج التي خلقتها القوى المعادية أمام المجتمعات العربية إن هي «حاولت» التمرُّد على الواقع الذي تعيش فيه.
في لحظات معيّنة بدت البدائل أمامها إما قبول الاستبداد، والعمل ــ بكل استكانة ــ على محاولات تحسين شروطه بهدوء ورويّة، أو القبول بالفساد والعمل ــ بكلّ استكانة ــ للتخفيف من وطأته ومن درجاته، أو الفوضى الشاملة المتلازمة مع أقسى أنواع العنف القادم مع موجات الإرهاب الإسلاموي، والذي تبيّن أنه لم يكن سوى صنيعة استعمارية غربية وصهيونية، ومع حروب سياسية ضارية تلبس ثوب الدين والطائفة والعشيرة والمنطقة، حروب على النفوذ واقتسام النفوذ، وحروب على السلطة في الأوطان، وليس على الأوطان نفسها.
وتكالبت على المجتمعات العربية كلها حروب لا تنتهي أدت من بين ما أدت إليه حتى الآن إلى تدمير التراكم التاريخي لمسار التحرر الوطني الديمقراطي، واستبداله بمسار العنف والقتل والحروب الداخلية المدعومة من «الغرب»، والتي أدت إلى خراب الأوطان وتدمير مقدراتها، وإلى تخريب وتدمير الهندسة الوطنية لمجتمعاتها، وإلى إغلاق كل مسارات الارتقاء الديمقراطي فيها. وفي السنوات الأخيرة تحديداً بدت الأمور في غاية القتامة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالمجتمع الفلسطيني تحديداً فقد كانت على أعلى درجات هذه القتامة، إن كان لجهة الفشل الذريع في إنهاء حالة الانقسام، أو استمرار هجمة الدولة الصهيونية نحو حسم الصراع بسلسلة متصلة من مخططات الاستيطان والتهويد، واستفحال مآلات من الانفلات الكامل لقطعان المستوطنين، إلى «ابتكار» أساليب جديدة للاستيلاء على الأرض والتمهيد للضمّ الواسع، ومواصلة الضمّ الزاحف وتحوّله إلى ضمّ جارف في الواقع.
حالة من الاستباحة الكاملة، وهجمات تقوّض أي رمز من رموز الكيانية الوطنية، ووضع الشعب الفلسطيني أمام خيارات الاستكانة التامة عن إبداء أي نوع من أنواع المقاومة مهما كانت رمزية وسلمية، أو مواجهة الموت، أو إبقاء الشعب الفلسطيني تحت تهديد التهجير والاقتلاع.
وترافق هذا كله مع حالة عربية مستكينة بدأت مسار «التعايش» مع دولة الاحتلال على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية، ودون أن تربطه مع تلك الحقوق. وبهذا يكون النظام العربي قد وافق عملياً على الخطة الإسرائيلية لحشر الشعب الفلسطيني في زاوية نظرية بتسلئيل سموتريتش حول البدائل الثلاثة.
ليس هذا كله فحسب، بل ان الوضع الدولي برمّته قد استكان بدوره، وسلّم واقعياً بالسطوة الأميركية والصهيونية على الإقليم، وتراجعت أطروحات الحل السياسي بمفهوم «حل الدولتين»، وتحولت إلى ما يشبه اللازمة في الأغاني والأناشيد، ثم تبعتها خرائط نتنياهو، وتمّ الموافقة على خطة «الممرّ الهندي» التي ترسّم شطب الجغرافية الفلسطينية من خارطة الإقليم، بعد أن «تمّ» بصورة «واقعية» إقصاء فلسطين من تاريخ الإقليم وتجريدها منه.
و»واقعياً»، أيضاً، قبل «العالم»، ومنه العالمان العربي والإسلامي بأن القضية الفلسطينية هي من حيث الجوهر قضية إسرائيلية داخلية هي من تحدد حجمها وطبيعتها ومحتواها، ووفق اعتباراتها ومصالحها، وبحيث تحول هذا الحجم، وهذا المحتوى «موضوعياً» إلى سقف لا يتجاوز تلك المصالح وتلك الاعتبارات تحت مسمّيات مختلفة من أمنية وإستراتيجية وغيرها، وهناك بالذات، ومن هناك كانت نقطة انطلاق مفهوم «الشرق الأوسط الجديد» في أحدث نسخة منه.
كل مقارنة منصفة ليس أمامها سوى أن تقف اليوم أمام ما أحدثه «طوفان الأقصى» من اهتزازات وتصدّعات وتشقّقات وتزلزلات في الواقع الذي كان سائداً قبله، وما هو سائد وقائم اليوم، لكي لا نتحدث عن ما يمكن أن ينطوي عليه هذا الواقع في الأفق المباشر والبعيد.
وبما أن الحرب الإبادية الهمجية التي شنت ولا تزال تشنّ على الشعب الفلسطيني، بكل ضراوة هي حرب أميركية باعتراف وإقرار العالم كلّه، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية نفسها، و»الغرب» دون استثناء، ودولة الاحتلال قبل أي طرف آخر، والعالمان العربي والإسلامي، بل إن قيادة أميركا للحرب العدوانية هو التبرير الذي يسوّقه هذان العالمان في تخاذلهما عن نصرة الشعب الفلسطيني، وبما أن أميركا هي قائدة وزعيمة هذه الحرب التدميرية، وهي حمت ورعت وسلّمت وحشدت وقاتلت وشاركت وأسهمت فيها على كل الجبهات والمستويات، وفي كل الاتجاهات والصعد والمجالات، فإن موقعها ودورها قبل الحرب العدوانية، وبعد أكثر من 20 شهراً من احتدامها هو مقياس المقارنة الأوّل.
أليست هزيمة جو بايدن في جزء هام منها كانت بسبب هذه الحرب؟
ثم ألم يعد ترامب بعد بايدن بإنهائها بانتصار كاسح وكامل؟
من جحيم بايدن إلى جحيم ترامب الشيء الجوهري الوحيد الذي تغيّر هو تراجعات أميركية، وخسارات أميركية في كل الاتجاهات.
خسارة كبيرة وفادحة في أوكرانيا، والأمور تسير نحو حسم الحرب هناك بصورة نهائية إما بنهاية الدولة الأوكرانية، أو بإعادة تشكيلها وفق الشروط الروسية الصارمة.
ثم خسارة المنافسة مع الصين بصرف النظر عن جولة الاستعراضات «الإعلامية» التي قادها ترامب حول الرسوم الجمركية.
ثم التراجع المشين والمذلّ أمام «جماعة أنصار الله» «الحوثيين» اليمنية في البحر الأحمر، والتراجع الكبير أمام إيران، والإقلاع عن تهديداته لكندا والمكسيك وجزيرة غرينلاند وكلّ فشخراته التي انكشفت أمام العالم كلّه.
وأما دولة الاحتلال فقد وصلت إلى كل حضيض ممكن.
جيشها ضرب ضربة أفقدته هيبته ومكانته، ولم يعد لا بقرةً مقدّسةً، ولا مؤسسةً للإجماع «القومي». وبعد 20 شهراً من الحرب الكارثية يفشل في تحقيق أهداف حقيقية، ولا يملك إستراتيجية واحدة يمكن الحديث عنها بجدية، وعجز ويعجز الآن عن التوغّل الحقيقي، وعجز وفشل في التقدم بعد أكثر من شهرين من القتال على الحافّة اللبنانية، وهو لا يقدر ولم ينجح إلّا في مجالين رئيسيين:
الأوّل، قدرة هائلة على الإجرام والإبادة والتدمير الموجّه ضد البنايات والسكان والمرافق أساساً مع تركيز خاص على قتل الأطفال والنساء.
والثاني، قدرة هائلة على الاغتيال والعمليات الاستخبارية العدوانية.
أما المجتمع الإسرائيلي اليوم فهو على حافّة كل الهاويات من كل أنواعها، وأما الانقسامات والتصدعات فهي ليست، ولم تعد سياسية، بل هي تتعمّق في الأبعاد الدينية، والمؤسّساتية، والاقتصادية والاجتماعية. صراعات، ومؤامرات على كل مستوى، تهديد للسلم الأهلي، ومخاطر حرب أهلية، وفشل في كل الاتجاهات وخسارات على مستوى العالم كلّه، بما في ذلك المؤسّسات «الغربية» الرسمية نفسها، والتي كانت، وربما ما زالت هي السند والداعم والحامي والرّاعي الوحيد.
عزلة وعار يلحق بها تحوّلات عميقة في وعي العالم للخطر الذي تمثله على العالم، وتحوّلت مقارنتها بالنازية إلى صيحات عالمية حقيقية.
هل الولايات المتحدة المهزومة والمأزومة، ودولة الاحتلال الغارقة في دم الأطفال الفلسطينيين، المنفلتة من كل قيد إنساني، والمجرّدة من أخلاق البشرية في تاريخ العالم الحديث والمعاصر كلّه، هل هاتان الدولتان بالذات هما في وضع يمكّنهما من «بناء» «شرق أوسط جديد» تحت الهيمنة الأميركية، وبسطوة القوة والغطرسة الإسرائيلية؟
الشرق الأوسط تغيّر فعلاً، وهو يتغيّر كل يوم يثبت فيه عجز الولايات المتحدة عن القيام بهذا الدور، وعجز دولة الاحتلال أن تكون دولة الأداة الضاربة.
«الشرق الأوسط الجديد» الممكن الوحيد هو الكيفية التي ستتمكّن الولايات المتحدة، وإلى جانبها دولة الاحتلال من [إدارة التراجعات الإستراتيجية التي فرضت عليهما بعد «الطوفان»]، والمعركة القائمة هي معركة الرتوش، لأن الحرب انتهت إلى العجز والفشل الأميركي، وإلى عجز وفشل إسرائيلي أكبر.
لا يجدر بنا أن نلوم أصحاب نظرية الاستكانة، لأن قراءة المشهد ليست عملية سهلة على الإطلاق، وطالما أن كل شيء كان يوحي، وكان يشي بالاستكانة.