في زمنٍ تُقصف فيه الحقيقة كما تُقصف البيوت، وتُباد فيه الأرواح كما تُباد الذاكرة، تطلّ علينا جريدة "الأيام نيوز" بملحقها الثقافي الذي جاء كصرخة من قلب الجمر، وكسياج من حروف مضيئة تحرس هوية شعب يواجه الفناء بمفردات الشهادة والكرامة. هذا الملحق ليس مجرد تجميع لمقالات أو قصائد، بل هو وثيقة نضالية ثقافية تُسجّل للزمن مواقف الكُتّاب العرب والفلسطينيين في لحظة من أشد لحظات التاريخ ظلمةً، وهو أيضًا فعل مقاومة جماعية بالكلمة في وجه الجريمة المستمرة ضد شعب فلسطين، وخصوصًا ضد أسراه الذين يخوضون معركة الحرية بصمت العظماء.
لقد تنوّعت محتويات هذا الملحق بين المقال السياسي الذي يرصد البعد الاستعماري للمأساة الفلسطينية، والنصوص الشعرية التي تحتضن الشهداء والأمهات والمنازل المهدّمة، والشهادات الحية من داخل خيام النزوح والمشافي المحاصرة، مما جعله يشكّل لوحة متكاملة تعكس الروح الحقيقية لمقاومة الاحتلال وأدواته الناعمة والخشنة. في افتتاحية جريئة بقلم الكاتبة قمر عبد الرحمن، تبرز إدانة صارخة للصهيونية الجديدة، وتُفضح الأساليب الإمبريالية في تدجين الوعي العربي، لتدعو الكلمة لأن تكون السلاح البديل عن الرصاص، والوسيلة الأكثر نبلاً في مواجهة الطغيان.
ثم يكتب عبد السلام عطاري عن جميلة بوحيرد بوصفها الأيقونة الحية للحرية والكرامة، فيما يرسل الأسير المحرر ناصر الشاويش قصيدته من خلف جدران المعاناة بعنوان "شمس الجزائر"، مؤكدًا على وحدة النضال العربي. وتأتي مقالة علي شكشك "الخيمة الآن" لتعيد طرح المأساة في بعدها الإنساني والسياسي من خلال صورة الخيمة التي لم تُطوَ بعد، والتي لا تزال رمزًا حيًا للنكبة. ويستدعي الشاعر ناصر عطا الله شهداءه الأصدقاء بلغة مغموسة بالدمع والانتماء في نصه "يا أصدقائي"، بينما يتعمق عيسى قراقع في شهادة سينمائية مدهشة من خلال قراءته لفيلم "ذبذبات من غزة" للمخرجة رحاب نزال، موثقًا كيف صار الصمّ يسمعون الموت بأجسادهم بينما أصيب العالم بالصمم. وتشاركنا الكاتبة مها غالب مطاوع شهادتها المؤلمة من داخل مشفى غزة الذي تحوّل إلى جحيم أرضي، فتصوغ مشاهد الغضب والموت والفقد ببراعة المراسل والشاعرة والناجية.
أما الشاعر جبر جميل شعث، فيكتب عن الكتابة في زمن الحرب بوصفها فعل بقاء ومعنى، لا ترفًا ولا تسرية، مؤكدًا أن استمرار الكتابة وسط المجزرة هو انتصار داخلي ضد الإبادة. ويغوص مهيب البرغوثي في عمق الكتابة كمقاومة للفراغ والهزيمة، رابطًا بين أدب السيرة والتخييل، بين الهزيمة كفعل متكرر والكتابة كوسيلة للانتصار عليها.
ويعود الشاعر الراحل محمد الدلة في قصيدته "هو البيت" ليستدعي مفردات الوطن الوجدانية، من الشاي إلى البابونج، من الأب إلى الأم، من المهد إلى القدس، حيث الكلمة تتحول إلى سلاح لا يُكسر، ثم توثق الجريدة سيرة الشاعر الشهيد سليم النفار، الذي استشهد مع عائلته تحت ركام منزله في غزة، وتعيد نشر مقتطفات من تجربته الشعرية التي طالما حمَلت فلسطين في وجدانها. ويضيء الناقد والكاتب حسن عبّادي في مقاله "تصدّع الجدران" على دور الأدب الفلسطيني في السجون، مستعرضًا أعمال مجموعة من الأسرى الكتّاب مثل كميل أبو حنيش، باسم خندقجي، أحمد العارضة، أماني حشيم، هيثم جابر، ثائر حنيني، قتيبة مسلم، سامر محروم، منذر مفلح، إسراء جعابيص، أيمن الشرباتي، أسامة مغربي وغيرهم، في ملحمة توثيقية تؤكد أنّ جدران الزنازين لا تُعيق النور، بل تُعلي من شأن الكلمة وتحرّرها من صمت الجدران.
وأخيرًا تأتي شهادة د. عاهد حلس في نصه "خطأ في منطق الحرب" لتُكثّف الألم الفلسطيني في عبارة موجعة: "أننا لم نمت بعد"، مشيرًا إلى أن بقاء الفلسطيني حيًا هو جريمة في منطق الاحتلال. لقد تجاوزت جريدة "الأيام نيوز" الدور التقليدي للإعلام، فأسست بملحقها هذا فعلًا ثقافيًا مقاومًا، وأثبتت أنّ الصحافة يمكن أن تكون جبهة متقدمة في معركة الوعي، لا مجرد ناقل أخبار.
إنّ ما قامت به الجريدة من احتضان للأصوات الفلسطينية الصادقة، ومن دعمها لقضية الأسرى الذين كثيرًا ما يُهمّشون في الإعلام العربي، هو عمل يجب التوقف عنده طويلاً بالإعجاب والتقدير. الملحق لم يكن مجرد نافذة أدبية، بل كان بمثابة قبة سماوية اتسعت لكل آلام الفلسطينيين، وحملت رسالة مفادها أنّ الذاكرة لن تُمحى، وأنّ الكلمة تظل أقوى من الطائرة، وأنّ الثقافة هي حاضنة النصر وإن طال زمن الانتظار.
تحية لـ"الأيام نيوز" ولفريقها التحريري، الذي آمن بأنّ الحبر مقاومة، وبأنّ المنبر الثقافي يجب أن يكون في الصفوف الأمامية من معركة التحرر، فكانت الجريدة بحق صوتًا للمضطهدين، وضميرًا للوجع العربي، ومنارة في زمن العتمة، وبيتًا لا يُقصف لأنه مشيّد من وفاء وحبر وكرامة.