عشنا، وعاش الآباء والأمهات والأجداد والجدات، هنا على هذه الأرض، فمنحتنا مائدة متنوعة لثلاث وجبات، من محاصيلنا في السهول الساحلية والداخلية، والجبال والغور والبرية، وأطراف الصحراء. ومنحتنا ما منحت من ماء، ومساكن بنيت مما توفر في البيئات متنوعة المناخ والتضاريس. منحنا تاريخها وواقعها أماكن للتعلم، ومنحتنا ثقافتنا وفنوننا مجالات للاستمتاع في ليالي الشتاء والصيف، ومنحتنا طاقاتها الروحية رحابة صدور متسامحة.
لنا الزهر، للنظر، وللطعام، نقليه ونطبخه، ونلف ورقه نحشيه الرز؛ فبإمكاننا أن نقليه بزيت الزيتون، نضيف عليه قطرات من الليمون، ولنا أن نجعله أحد مكونات "المقلوبة"، ولنا أن نطبخه باللبن، والبندورة، ولنا "المشاط"، ولنا "القراص بالزهر"، ..فالسحر إذ أننا يمكننا تناول الزهر يوميا دون أن نشعر بالتكرار، ولعل هناك من يضيف أنواعا من الطعام الذي يعتمد على "الزهر". وتلك هي عبقرية الشعوب، ومنها شعبنا العريق الذي على مدار آلاف الأعوام عرف كيف يعيش بجمال؛ فهل عشنا قرناً مضى معتمدين على من يمنحنا؟ وهل عشنا أثناء الصراع الممتد منذ الاحتلال البريطاني وما واكبه من مخططات صهيونية، وما جرى من حروب في فلسطين وعليها، ونحن نمدّ أيدينا للآخرين ليجود علينا؟ ما نعرفه من تاريخ شفويّ ومكتوب أن شعبنا هو من كان يجود، بدون منة أو فخر بالعطاء.
لنا ما أبدعناه هنا، وما زلنا نبدعه من حياة، من طعام وشراب وبيوت، وتعليم وثقافة، لنا الكثير لنفعله على مستوى الأفراد والأسر حتى نبقى، لا الانشغال بما لا يطعمنا من جوع ولا يؤمننا من خوف، فكل واحد يحيا هنا قادر أن يؤمن طعامه والشراب، فما زال هذا الهواء والتراب لنا، وما زالت نار الرغبة بالحياة تسكننا.
في السبعينيات كانت الطفولة، وفي عقد الثمانينيات صرنا فتيانا ودخلنا أول الشباب، نحن المولودون عام الهزيمة 1967، فكنا ومن قبلنا بأعوام ومن بعدنا، نشهد كيف كانت الأسر وهي تتدبر بقاءها، وتعليم أبنائها وبناتها، وتأمين الاحتياجات، بجهود متواصلة، وفي الوقت نفسه، كنا صغارا وكبارا مهتمين بالخلاص الوطني، فلم ينفصل قيامنا بتأمين البقاء، بالانخراط في الحركة الوطنية أو دعمها؛ فلم يكن هنا ما صرنا نشهده من خلاص فرديّ، وتجيير العام للخاص، بمعنى التحول من العطاء للأخذ. كنا مندمجين شعورا ووعيا بمنظمة التحرير بما تمثله من هدف التحرر.
لم نمت، ولن نموت، صحيح أننا وقعنا في أفخاخ التحولات على مدار 3 عقود، ولكن أوائل أشعة الشمس قادر على تبديد الظلام. ليست الشعوب عالة على بعضها بعضا ولا على الحكومات، وليست الدول حكومات، ولكن الدول أن تحيا الشعوب بكرامة، وبفعل نستلهمه من إيماننا بقدرتنا.
لقد صنع شعبنا حياته وأبدع بقاءه هنا وفي الشتات، وفي داخل مناطق 1948، بسبب إرادته؛ فنحن أحفاد الكنعانيين الزرّاع؛ فعلى مدار الصراعات هنا بقينا نزرع، ولم يجد الغزاة مجالا للاستغناء عنا، بينما دوما كنا نحن مستغنين عن الغزاة، سوى ما علقنا به للأسف من إغراء التحول من الاعتماد على الأرض الى التحول بروليتاريا للعمل في مستوطنات الاحتلال، وكم كنا نرجو إعادة الأمور لسابق عهدها منذ تأسيس السلطة الوطنية عام 1994، ولا مجال هنا للوم فئة، بل المجال اليوم هو إعادة الاعتبار لعناصر الإنتاج، وتلك هي الكرامة. ونحن نريد أن نبدع في البقاء، وبه نبقى وننتصر فعلا، ولا ينبغي لشعب عريق أن يتم مقايضة الحقوق والكرامة بالطحين والزيت.
لم ينته الاحتلال العسكري، ولكننا كشعب تحت الاحتلال العسكري المباشر لنا فطرتنا في اجتراح الحياة، كما كنا، وكما كانت إرادتنا دوما بوصلتها التحرر من الاحتلال، لا القلق على "اللقمة".
وعليه، فلنا ما ننشغل به "احنا وإياهم والزمن طويل"، لا ما يراد لنا الانشغال به، فلا ننفعل كثيرا في أمر هامشيّ، ولعلّ العمل ساعة خير من إضاعة الوقت في موضعة أنفسنا تجاه من يكون وما يكون.
الفلسطيني القويّ هو من يشعر بالقوة لأنه مواطن هنا، حتى ولو كانت مواطنته تحت الاحتلال الذي طال، ففي عمق صلاة المؤمنين، هو الطلب برزق اليوم، أما الغد فله عمل آخر. "كقاف يومنا" هو ما نخطط له، والأرض كريمة لم تبخل علينا، حتى في محدودية نسبة الأمطار من عام الى آخر. وعليه فنحن شعب غنيّ لا فقير كما يراد برمجتنا؛ فإن جاء من ينطلق من هذا الوعي والفعل، ليسير معنا، قربنا، أمامنا وخلفنا، فهو منا، ونحن منه، فلا يطولن الانشغال كثيرا بما يقال، بل لنصنع نحن الفعل، فرياح إرادة الشعوب فقط هي من تدفع أشرعة القادة نحو الإبحار الآمن وصولا لميناء، هو أول البرّ وأول البناء.
إن تأمل واقعنا الاقتصادي على مدار قرن، وبشكل خاص بعد انتهاء الحكم العثماني، يمنحنا ما نفعله لا ما نقوله. لقد عشنا فعلا معتمدين على سواعدنا لا على الحكومات، فكم كانت نسبة الموظفين مثلا والعمال؟ ولكن في ظل هندسة الفلسطينيين باتجاه حرفهم عن الأرض المصدر الأول للإنتاج الزراعي النباتي والحيواني، وما يبنى عليه من صناعات وتجارة، فقد تم إدخالنا في واقع الاعتمادية؛ "فهناك من يفتح الحنفية وهناك من يسكرها"، ولأن الاحتلال يغير فقط شكله، فلنا أن نذهب نحو المضمون، فلنا مثلا أن نسعى للعمل في بلاد العالم، كما في بلادنا، لا كعمال مهرة وغير مهرة، بل كفنيين وخبراء وعلماء، ولنا أن نتعظ بما حدث من إقصاء للعمال، فلا ثقة بالمستعمرين، "وإن ألانوا فلهم قلوب لا ترقّ". رحم الله أحمد شوقي حين رثا دمشق بعد نكبتها منذ قرن.
آن الأوان أن ندرك بوعي وانتماء أننا شعب يعاني الاحتلال أولا، وهو المعيق الأول والدائم لأية تنمية للأفراد والأسر. لقد أثبت السلوك الرأسمالي في ظل نيو ليبرالية منفلتة، أن هذا الخيار هو خلاص لأفراد وتكدس المال في أيدي فئات، ما يخلق نزعات طبقية تسطو على السلم الأهلي.
وحتى نكون واقعيين، فهناك خطان نسير بهما وفيهما، نجعلهما يلتقيان في الزمان والمكان بإرادتنا: الأول وهو الذاتي، بإعادة الاعتبار لقدراتنا الاقتصادية من منطلق العدالة، ونستمر به. والثاني وهو الاستفادة ما أمكننا من مسؤوليات المجتمع الدولي تجاه فلسطين المحتلة، خاصة في إعادة بناء قطاع غزة، وشمال الضفة الغربية بشكل خاص. وهناك انسجام تام، فلا تناقض بينهما. وعلينا في ظل تقوية العامل الذاتي أن نطالب الدول المتعاقدة على قيام السلطة الوطنية عام 1994، بتقديم استحقاقات التعاقد، فلا نطالب بمليارات، ومن جهة أخرى، لعل "العالم الموصوف بالحرّ" أن يأمر سلطات الاحتلال لا بإعادة أموالنا فقط، بل بتحرير اقتصادنا من التبعية غير المنطقية لشعب تحت الاحتلال لدولة الاحتلال، لأننا لسنا مضطرين للعيش في وحدة ضرائبية واحدة، في ظل الفجوة بيننا، حيث أن بالإمكان جعل العالم العربي الشقيق فضاء لنا نبيعه ونشتري منه.
البقاء هنا فقط هو ضمان التحرر؛ فمن يقودنا نحو تقوية بقائنا، فله ذلك، ومن يفعل غير ذلك، فله ما اختار ولنا ما ننشغل به، كما كنا طوال قرن من الزمان، وكما سنظل قرونا. نقطة ضع القلم.