الكوفية:منذ ثمانية عشر شهراً يُطرح مصير الشعب الفلسطيني للحسم في شروط غير مواتية تماماً، باستثناء عدالة القضية الفلسطينية ورفض المجتمعات العالمية والمنظمات الحقوقية لحرب الإبادة والحل الفاشي الإسرائيلي.
عندما يتم وضع هذه المعادلة في الميزان يشعر أي حريص على نجاة الشعب الفلسطيني باختلالات في المواقف الفلسطينية التي تحول دون اتخاذ موقف مشترك أو أكثري يساعد في قطع الطريق على المآل الكارثي.
الكل الفلسطيني يعيش داخل سفينة آيلة للغرق وكل الأنظار تتجه إلى من يسعى إلى الإنقاذ وإلى من يدفع السفينة نحو الغرق، في ظل تبادل التهم وفقدان البوصلة والاتجاه لدى العديد من القوى السياسية والنخب. علما أن المطلوب هو توجيه السفينة بعيداً عن الجبل الجليدي والحيلولة دون اصطدامها به وحلول الكارثة.
إن أكثر الشروط غير المواتية هو العامل الذاتي الفلسطيني وتحديداً بنية المؤسسة الفلسطينية «منظمة وسلطة» ذات المناعة واللياقة المنخفضة وبخاصة أثناء الحرب والأزمات، وبنية التنظيمات التي لا تختلف كثيراً، بل بعضها أسوأ، لا سيّما الملتصقة بأيديولوجيا دينية تُسوِغ كل ما تفعله من مغامرات غير محسوبة باعتباره قدراً لا فكاك منه، وجلها بنى أبوية تنتمي إلى زمن الحرب الباردة، ومنذ ذلك الزمن لم تواكب الحركة السياسية الحداثة المعرفية، بعضها فقد هويته الفكرية وأصبح فكره خليطاً ملتبساً، وجميعها لم تحدث إصلاحاً أو تجديداً يتلاءم مع التحولات السياسية والخرائط الديمغرافية.
وبفعل ذلك أُغلق التجديد والتطوير من فوق، كان التعويل على مبادرة من داخل المجتمع أو من خارج البنيات المأزومة، وللأسف لم تنمُ بنيات جديدة في غياب نمو فكر ديمقراطي علماني منفتح على تجارب ناجعة، بقيت النقابات والاتحادات والمنظمات النسوية على مقاس التنظيمات، في حين تعرضت نخب إعلامية وثقافية وأكاديمية ومنظمات غير حكومية لاستقطاب مراكز المال الخارجي.
في غياب مناعة القوى السياسية وهشاشة قراءاتها للواقع وللمحيط فإنها تتعرض ومعها المجتمع الفلسطيني لكل أنواع التدخلات وأكثرها خطراً وسوءا وهي الوصاية والاحتواء والإملاء.
لا يأتي الإصلاح والتغيير مرة واحدة بل عبر عشرات المعارك الديمقراطية التي تراكم التغيير والإصلاح في مدى زمني مفتوح.
وثبت أن الانتخابات لا تقتصر على ممارسة حق انتخابي بل يحتاج المجتمع إلى تهيئة متعددة الأبعاد، بدءا بوضع معايير وقواعد التطوير مروراً بالتنافس البناء عبر الحوار والسجال وانتهاء بالتجديد والبناء.
أثناء حرب الإبادة وتهديد الوجود ليس أمامنا ترف الإصلاح والانتخاب، أمامنا مهمة العمل من أجل الإنقاذ ووقف الموت وجرائم الحرب والتجويع والتشريد والإذلال، أي وقف حرب الإبادة.
دون مجتمع لا يمكن الحديث عن المؤسسة وتطويرها، ولا عن تقرير المصير ولا عن التحرر من الاحتلال ولا عن ديمقراطية.
المجتمع وبقاؤه على أرضه وفي وطنه هو بيت القصيد. وهنا يبرز دور المؤسسة الرسمية، فهي على علاتها تشكل الشرعية الفلسطينية والكيان السياسي المعترف به عربياً وإقليمياً ودولياً، وهي الآن مطروحة للتقويض والشطب ومعها حق تقرير المصير والحل الدولي للصراع، في الوقت الذي يحتاجها الشعب المنكوب وتحتاجها القوى السياسية، وهي الآن صلة الوصل مع محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية والأونروا ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي واليونيسيف واليونسكو.
يكتسب وجود مركز شرعي للشعب الفلسطيني على أرض وطنه، ومعترف به عالمياً وإقليمياً أهمية استثنائية في هذه اللحظة.
فإذا انفرطت الشرعية التي تأسست بصيغة منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1964 فلن تقوم لها قائمة بعد انهيارها، وليس صدفة أن أحد أهداف حكومة نتنياهو الكهانية هو الإطاحة بهذا المركز باعتباره خطراً يفوق في خطورته المقاومة المسلحة.
وفي التطبيق كانت حكومة نتنياهو تمرر ملايين الأموال القطرية إلى مركز المقاومة في قطاع غزة في الوقت الذي تمارس فيه قرصنة على أموال الضرائب التي تسلم للسلطة بناء على اتفاق باريس الاقتصادي.
أخلص للقول، مهما كانت بنية هذا المركز مشوهة فإن فرصة إصلاحها وتطويرها ممكنة عندما تتوفر رؤية ديمقراطية وحامل ديمقراطي للإصلاح.
اجتماع المجلس المركزي كشف اختلالات من داخل المؤسسة. فبدلاً من التمسك بالشرعية وتقويتها والاستقواء بها، حصل العكس، قاطعت الجبهة الشعبية والمبادرة الاجتماع، وانسحبت الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب من الاجتماع.
وكانت النتيجة إضعاف المؤسسة والشرعية المحاصرة والمستهدفة، وتسهيل التدخلات وأشكال الوصاية وفرض الشروط.
المبررات التي ساقتها التنظيمات اليسارية لمقاطعتها أو انسحابها من اجتماع المجلس المركزي غير مقنعة، سواء كان لجهة تغيير بنود الاجتماع والمطالبة بتأجيله أو الاعتراض على شتيمة قيادة حماس من قبل الرئيس، أو اشتراط التوافق المسبق بين جميع التنظيمات. كل هذه الأسباب لا تبرر الانسحاب من المؤسسة في اللحظة الأشد خطورة.
من حق التنظيمات طرح مواقفها ومبادراتها عبر منصات المؤسسات الرسمية، ولا يجوز منعها، وليس من حق التنظيمات وضع مواقفها في صيغة اشتراطات في ظل وجود أكثرية من تنظيم فتح كانت تتزايد باطّراد بموافقة تلك التنظيمات مقابل حصولها على حصة من الزيادة.
هذا الواقع لا يتغير إلا بالانتقال من نظام الكوتا المتهالك إلى نظام التمثيل النسبي المفتوح على كل القوى الحية في المجتمع.
مسألتان جعلتا مواقف المنسحبين والمقاطعين لا تسر صديقاً.
المسألة الأولى: التوافق الفصائلي على الطريقة القديمة بمعزل عن أساس شرعي ونظامي وفي أشد اللحظات خطراً وتهديداً.
لا يمكن خلط الشرعية الفلسطينية باللاشرعية على أساس برنامجين ورؤيتين متعاكستين. كان المطلوب من المقاطعين والمنسحبين بلورة اتفاق مع حركتي حماس والجهاد حول دخولهما لمؤسسات المنظمة – الشرعية الفلسطينية - على قاعدة برنامجها الذي يستند للشرعية والقانون الدوليين. باعتباره البرنامج المشترك للكل الفلسطيني الذي يختلف عن البرنامج الخاص بكل تنظيم.
لم تفعل هذه الفصائل ووضعت اشتراطات أخلت بالنظام المعمول به في مؤسسات المنظمة، مستعينة ببيان بكين الذي جسد الخلط بين الشرعية واللاشرعية لمصلحة الأخيرة عندما أفقد اللجنة التنفيذية دورها لمصلحة الإطار القيادي المؤقت، ودعا إلى حكومة توافق دون دخول حماس إلى الشرعية وقبول استحقاقات الشرعية، فضلاً عن اشتراط دخول حماس للمنظمة والاعتراف بها بعد إصلاحها.
المسألة الثانية: موقف تنظيمات اليسار حول إنهاء الحرب المنسجم مع موقف حماس والاستعاضة عن ذلك بخطاب يدعو إلى «الصمود والمقاومة واستنزاف العدو الذي يمزق الانقسام صفوفه»، والقول إن «الأغلبية الساحقة من الشعب تتمسك بهذا الخيار».
كلام منفصل عن الواقع في قطاع غزة الذي يُدمر فيه ما تبقى من حياة في كل يوم حرب ويدفع باتجاه التهجير القسري والطوعي، ولهذا فإن استمرار الحرب هو هدف حكومة نتنياهو.
وخيار المقاومة منفصل عن واقع الضفة الغربية التي تتعرض لحرب تطهير عرقي وتصفية من طرف واحد دون مقاومة.
في الوقت الذي لا تستطيع فيه المقاومة منع المجازر والتهجير والتجويع في القطاع والضفة لكنها تدعو إلى استمرار الحرب وتتفاوض فيه حركة حماس على استمرار سيطرتها المباشرة أو غير المباشرة على المجتمع.