عن تلك التظاهرة في تل أبيب

رجب أبو سرية
عن تلك التظاهرة في تل أبيب
بدت مدينة تل أبيب مساء يوم الثلاثاء الماضي، كما لو كانت مدينة أوروبية أو حتى أميركية، بدت كما لو كانت بروكسل، مدريد، لندن أو حتى نيويورك، فقد جابتها تظاهرة شعبية، لم تخرج من قبل عائلات المحتجزين، من أجل المطالبة بعقد صفقة التبادل، ولا من أجل التنديد بنية الحكومة إقرار مشروع الإعفاء من التجنيد إرضاء للحريديم، وحفاظاً على الائتلاف الفاشي الحاكم، ولكن خرج اليهود والعرب في إسرائيل تنديداً بحرب التجويع الإسرائيلية، وتضماناً مع غزة، وذلك في مشهد لافت، لكنه يعبر بشكل صريح وحاد، عن ما وصلت إليه الفاشية الإسرائيلية من مدى إجرامي، يؤكد أنه ليس بنيامين نتنياهو، ولا يوآف غالانت مجرمَي حرب الإبادة الجماعية وحسب، ولكن مجمل أعضاء الحكومة فرادى ومجتمعين، وأن الأدلة على جريمة حرب الإبادة مؤكدة تماماً، ولم تعد مجرد شك أو تخمين، فكل الدنيا باتت متأكدة من ارتكاب إسرائيل جريمة حرب الإبادة بمن في ذلك بعض الإسرائيليين أنفسهم.
وإذا كان بعض الصحف الأميركية قد نسب القول لبعض المسؤولين بأنه حتى
الرئيس ترامب المساند لنتنياهو في كل سياساته، أبدى صدمته مما تقدم عليه إسرائيل من اعتداءات على سورية، ومن مواصلة حرب التجويع، ومن تسييس المساعدات الإنسانية إلى غزة.
أما صحيفة هآرتس الإسرائيلية، فقد وصفت وزير خارجية إسرائيل بوزير التجويع، وذلك رداً على قراره عدم تمديد تأشيرة إقامة جوناثان ويتال رئيس مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، وذلك في ربط واضح لملاحقة إسرائيل لمؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية، حتى تواصل القبض على مقود معونات الإغاثة عبر المؤسسة الأميركية التي جاءت لتنفيذ هدف التهجير،
فيما كان يائير جولان رئيس الحزب الديمقراطي وهو الائتلاف بين حزبي العمل التاريخي المؤسس لدولة إسرائيل وحزب ميرتس، يقول إن يهوداً يرتكبون مذابح بحق الفلسطينيين، في الضفة الغربية وبشكل منهجي ومنتظم، وقد نقلت كلام جولان قناة كان الشهيرة، مضيفة قوله إن اليهود هم من يقومون بهذه الأعمال على عكس الماضي، وإن الحكومة الإسرائيلية قد فقدت السيطرة، وذلك لأن مجرماً على رأس وزارة الأمن القومي، مشيراً للوزير الفاشي إيتمار بن غفير، الذي تسبب حسب جولان بأن لا يوجد قانون ولا نظام في دولة إسرائيل، كما أشار إلى العنف في المجتمع العربي والناتج عن سلوك عنصري لدولة إسرائيل، وحذر جولان من تحول دولة إسرائيل إلى دولة دكتاتورية، حين قال إن الانتخابات القادمة ستكون الأخيرة التي تجري بحرية ونزاهة، مشيراً إلى أن التطرف الحكومي وصل إلى حد أن تبذل جهود حكومية متعمدة لمنع الانتخابات الحرة.
هذه المواقف تظهر التطرف الفاشي المنتشر في الحكومة الإسرائيلية، والذي لا يقتصر على وزراء الصهيونية الدينية والعظمة اليهودية، بل يشمل كل وزراء الليكود، وتكفي هنا متابعة تصريحات ومواقف إسرائيل كاتس وجدعون ساعر، بعد نتنياهو ويوآف غالانت، للتأكيد على أن كل اليمين الإسرائيلي بات فاشياً، تضم جعبته ممارسة جرائم الحرب في غزة والضفة، كذلك ممارسة العمل العنصري ضد مواطني الدولة من غير اليمين، إضافة بالطبع إلى نزعة التفوق العسكري على كل دول وشعوب الشرق الأوسط، وكذلك نزعة التوسع الاحتلالية التي تظهرها حكومة إسرائيل الحالية في لبنان وسورية، إضافة لنواياها وأحلامها التوسعية في مجمل الشرق الأوسط.
وفي رد وزراء وأوساط اليمين الفاشي على جولان وهآرتس ليس مستبعداً أن يوصف جولان باليساري المعادي لدولة إسرائيل، كذلك أن توصف هآرتس بالصحيفة الصفراء مثلاً، التي تردد ما يقوله الإرهابيون، بل ربما يتمادى أحدهم أو بعضهم بوصف من يتصف بالإنسانية من اليهود الإسرائيليين وحتى اليهود غير الإسرائيليين، فينتصر لضحايا الفاشية الإسرائيلية في غزة والضفة وغيرهما، بأنه معادٍ للسامية، لكن من المؤكد أن تلجم التظاهرة الشعبية التي انطلقت تحت شعار «مسيرة الطحين» حيث شوهد المواطنون الإسرائيليون - عرباً ويهوداً - يحملون أكياس الطحين وصور الأطفال الجوعى، وهم ينددون بجريمة الحرب التي ترتكبها حكومتهم أمام أعين العالم بأسره، وأمام أعين الأميركيين على نحو خاص، ليدقوا جدران خزان الصمت العالمي، تجاه أخطر وأوضح جريمة حرب ترتكب بحق الإنسانية في القرن الواحد والعشرين.
التظاهرة في تل أبيب على أي حال تكشف جملة من المفارقات، منها أن تجري في إسرائيل في ظل صمت عواصم ومدن المحيط العربي والإسلامي، ومنها أن تل أبيب تؤكد انتماءها للغرب الليبرالي، كما هو حالها حيث كانت عاصمة لدولة «الأشكناز» إن صح التعبير، أي تلك الدولة التي أسسها وأقامها ديفيد بن غوريون، الجد السياسي ليائير جولان، مقابل الدولة الفاشية التي يجري تأسيسها على يد اليمين الفاشي بقيادة الليكود وبنيامين نتنياهو، وبشراكة حزبي المستوطنين،
الصهيونية الدينية والعظمة اليهودية، وهذه فصولها، بل إن استعراضاً سريعاً لما قامت به خلال ثلاث سنوات مضت على تشكيلها يؤكد كونها «دولة فاشية» تقوم على العنصرية والتوسع والاحتلال وارتكاب جرائم الحرب، وأنها ليست دولة ديمقراطية، ولا تنتمي للغرب، وقبل الحرب التي شنتها في أكتوبر العام 2023، كانت خلال عام سبق الحرب، أي منذ تشكيلها في تشرين الثاني 2022، تقوم بانقلاب داخلي، على مؤسسات الدولة الأمنية، وخاصة على القضاء، وهو عماد دولة القانون والمؤسسات، أي الدولة الديمقراطية.
دولة إسرائيل الكبرى التي يقوم اليمين الفاشي الإسرائيلي بإقامتها، ضمن سياق خلط أوراق الشرق الأوسط وإعادة ترتيبها، وفق منطق الفرض والإكراه واستناداً إلى القوة العسكرية، وعن طريق شن الحروب ضد كل من يعترض طريق إقامة هذه الدولة / الامبراطورية، لن تستثني أحداً بمن في ذلك اليهود العلمانيون، البشر الإنسانيون، ممن أسسوا الدولة خلال الحرب الباردة، وكانوا يفتخرون بكونها «الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، وبالطبع هذا يقلب طبيعة دولة إسرائيل رأساً على عقب، وفي الحقيقة هذا ما أدركته أوروبا أيضاً خلال الحرب الحالية، وما بات يدركه الإسرائيليون ممن ما زالوا خارج ثقافة اليمين الفاشي، لذلك شهدنا التحول في مواقف الغرب الأوروبي، التي مست المستوى الرسمي بعد تحرك المدن الأوروبية.
فقط بقي الموقف الأميركي هو وحده الذي ما زال يجتاحه العمى، فلا يرى أبعد من أنف ترامب الرئيس النرجسي، الذي يرى في شخصه رجلاً فائق القدرة والذكاء، لدرجة أن يفعل ما يريد ويرغب، وكأن العالم كله قد أنشئ من أجله وحسب، وقد عرف فاشيو اليمين الإسرائيلي، تحديداً نتنياهو ورون ديرمر كيف يداعبون نرجسية ترامب، كما لو كان طفلاً يطرب للإطراء، لكن كل ذلك لا يبقى، فالحروب حتى لو كانت تنتهي بانتصار الطرف الأقوى عسكرياً، لكن لأنه عادة يكون الطرف الأضعف أخلاقياً، فإن نتائج النصر لا تبقى طويلاً، وهكذا سيكون حال إسرائيل الكبرى التوسعية، وهي تعادي دول وشعوب الشرق الأوسط، وترتكب جرائم الحرب التي لن ينساها لا الفلسطينيون ولا اللبنانيون ولا السوريون، ولا الإيرانيون، ولا اليمنيون، ولا حتى المصريون والأردنيون.
بدل دولة احتلالية توسعية، حتى لو نجحت في التوسع مع ما يتطلبه ذلك من كراهية وعداء، ما زالا يرافقان دولة إسرائيل منذ ثمانية عقود، هو «دولة» متعايشة مع الجيران الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وليس مع الأقليات، بل مع جميع من يسكن الشرق الأوسط منذ آلاف السنين، مثل هذه الدولة تجد نفسها مثقلة بمهمة التخلص من يمينها الفاشي، في ظل ميزان قوة ما زال مختلاً ولا ينتصر للعدالة الإنسانية، وفي ظل إقليم يجتاحه التطرف من كل الجهات والأوساط، ويقيناً أن دولة تخضع للتطرف لن تنجح في السيطرة على هذه الفوضى، بل منطق الدخول في العصر، حيث العالم كله يسير على طريق التعايش والتفاعل البشري بين الأمم والدول.
هكذا يعود السؤال لداخل إسرائيل كما هو قائم حولها، حتى يشترك الجميع في التخلص من عدو الجميع.