هل تتحدى الإرادة الدولية جرائم إسرائيل في غزة؟

سنية الحسيني
هل تتحدى الإرادة الدولية جرائم إسرائيل في غزة؟
تتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، وتزهق المجاعة أرواح مزيدٍ من الأطفال والمدنيين، إلى جانب الذين يفقدون حياتهم يومياً بفعل آلة القتل والتدمير الإسرائيلية الوحشية، ناهيك عن الخسائر الإضافية في الأرواح في ظل تعطيل المنظومة الصحية في القطاع. فقد جاءت تحذيرات من قبل أكثر من ١٠٩ منظمات للمساعدات الدولية بأن الوضع في غزة وصل إلى “الجوع الجماعي” خلال الأسابيع الأخيرة. وحسب بيانات فلسطينية رسمية، فقد أكثر من ٦٠ ألف فلسطيني حياته، وأصيب ضعف هذا العدد، نتيجة القتل المباشر من قبل قوات الاحتلال، ناهيك عن آلاف المفقودين. يأتي ذلك بالإضافة إلى خسارة مئات الأطفال حياتهم نتيجة تفاقم مستوى المجاعة في غزة، ومقتل مئات آخرين، في مصائد الموت، التي نصبها الاحتلال والشركات الأميركية المتعاونة معه، بحجة توزيع الاحتياجات الإنسانية الأساسية لسكان القطاع، بدلاً من المؤسسات الدولية.
يأتي ذلك في ظل استمرار مماطلة إسرائيل بوقف الحرب، ومواصلة خداعها للعالم، وذلك بتظاهرها المشاركة في مفاوضات فضفاضة لوقف إطلاق النار، بينما تشدد حصارها على المدنيين العزل لقتل أكبر عدد منهم، وتزيد توسعها في غزة وسيطرتها على مساحات إضافية، وتزيد من أوامر إخلاء المدنيين، وتحصرهم في أماكن ضيقة محددة، وتمسح أي أثر لوجودهم، بتدمير كامل لبيوتهم في مناطق عديدة في القطاع.
طالبت ٢٥ دولة في بيان، يوم الاثنين الماضي، ومعظمها دول أوروبية، من بينها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، إسرائيل بوقف الحرب على غزة فوراً، ورفع القيود المفروضة على دخول المواد الغذائية الأساسية إلى القطاع. وشددت تلك الدول على رفضها التهجير القسري وأي إجراء يحدث تغييرا ديمغرافيا في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعبّرت الدول الموقّعة على البيان، والتي انضمّ إليها بعد ذلك ثلاث دول أوروبية أخرى، عن استعدادها «لاتخاذ إجراءات إضافية لدعم وقف فوري لإطلاق النار في غزة». حمل البيان توقيع ٢٤ دولة أوروبية معظمها من بين دول الاتحاد الأوروبي الـ٢٧، بالإضافة إلى كندا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان، وامتنعت دول مثل ألمانيا والمجر عن التوقيع على البيان. كما صدر بيان للاشتراكية الدولية في ذات اليوم حول الأزمة الإنسانية في غزة والضفة الغربية، وهي منظمة دولية، تأسست في العام ١٩٥٠، وتضم في عضويتها حالياً أكثر من ١٦٠ حزباً ومنظمة من جميع أنحاء العالم. واعتبر هذا البيان أن استخدام الجوع كسلاح في الحرب هو أمر غير مقبول، ودعا لاتخاذ إجراءات فورية لمعالجة الكارثة الإنسانية في غزة.
لم يأت هذا التطور في المواقف الرسمية للدول الغربية الرافض لاستمرار الحرب الإسرائيلية في غزة جديداً، فقد عكس التصويت في الجمعية العامة ومجلس الأمن منذ بداية الحرب، إجماع الموقف الرسمي الدولي على رفض مواصلة إسرائيل حربها المدمرة على القطاع. فقد صدر عن الجمعية العامة في الأمم المتحدة عدد من القرارات طالبت جميعها بوقف الحرب. صدرت تلك القرارات بالأغلبية، لكن الملفت هو تطور تلك الأغلبية، والإجماع الدولي لصالح وقف الحرب. في ٢٧ تشرين الأول في العام ٢٠٢٣، أي بعد شن إسرائيل حربها على غزة بأيام، دعمت ١٢١ دولة القرار رقم ES 10/21 بينما امتنعت ٤٤ دولة عن التصويت، وعارضته ١٤ دولة أخرى. بعد ذلك وبأقل من شهرين صدر قرار آخر عن الجمعية رقم ES 10/22 بموافقة ١٥٣ دولة، وامتناع ٢٣ دولة عن التصويت، ورفضته ١٠ دول أخرى. وبعد عام صدر قرار آخر، رقمه A/ES 10/26 دعمته ١٥٨ دولة، وامتناع ١٣ دولة فقط، بينما عارضته ٩ دول. وصدر في شهر حزيران الماضي قرار آخر عن الجمعية يحمل نفس المطالب القرارات السابقة، بموافقة ١٤٩ دولة، وامتناع ١٩ دولة، ومعارضة ١٢ دولة أخرى. وبغض النظر عن الضغط الذي مارسته إدارة الرئيس دونالد ترامب على دول العالم، وذلك بعد وصوله للحكم، فإن الأغلبية المطلقة لهذه الدول طالبت بوقف حرب الإبادة والقتل والتجويع والتهجير في غزة، استجابة لمواقف شعوبها.
كان هناك عدة محاولات أيضاً لاستصدار قرار من مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية في غزة، ما يعكس أيضاً إجماع دول مجلس الأمن جميعها، باستثناء الولايات المتحدة، إلا أنها أحبطت بسبب الدعم المطلق الأميركي لإسرائيل باستخدام الفيتو ٦ مرات، منذ بداية الحرب الإسرائيلية. وفي ١٨ تشرين الأول ٢٠٢٣، دعا مشروع مُقدّم من البرازيل لوقف إطلاق نار فوري وفتح الممرات الإنسانية، ولكن المشروع سقط بعد استخدام الولايات المتحدة الفيتو، رغم تأييد ١٢ دولة له، من مجموع ١٥ دولة، وامتناع دولتين عن التصويت. وفي ٨ كانون الأول في العام ٢٠٢٣، جاء مشروع قرار آخر مقدم من الدول العشر غير الدائمة العضوية في مجلس الأمن، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وافقت عليه ١٤ دولة، أحبط بالفيتو الأميركي. وفي ٢٠ شباط من العام ٢٠٢٤، رفعت الجزائر مشروعاً جديداً في المجلس يدعو إلى وقف إطلاق نار إنساني، أيدته ١٣ دولة، بينما امتنعت بريطانيا عن التصويت، وأسقطته الولايات المتحدة مرة أخرى. وفي ٢٠ تشرين الثاني في العام ٢٠٢٤ طرحت الدول العشر غير الدائمة في المجلس مشروع قرار جديداً يدعو إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وإدخال الاحتياجات الإنسانية، تم تأييده من قبل ١٤ دولة، وأسقطه الفيتو الأميركي. وفي ٤ حزيران ٢٠٢٥ طرحت الدول الأعضاء غير الدائمة في المجلس مشروعاً دولياً جديداً يدعو لوقف إطلاق نار فوري وغير مشروط ودائم، وإتاحة وصول المساعدات دون عوائق إلى جميع أنحاء القطاع، إلا أنه أحبط كالمشاريع السابقة، رغم تأييده من قبل ١٤ دولة أيضاً.
وتقف الولايات المتحدة سواء في مجلس الأمن أو الجمعية العامة متحدية الإرادة الدولية، الداعية لوقف القتل والإبادة والتجويع والتشريد في غزة، متبنية في ذلك موقف إسرائيل. ورغم ذلك طرحت الولايات المتحدة مشروعَي قرارين في ذات الشأن، أُسقطا بفعل الفيتو الروسي والصيني. فقد جاء مشروع قرار أميركي في ٢٥ تشرين الأول ٢٠٢٣ يدعو إلى وقف إطلاق نار إنساني مؤقت ووصول مساعدات وإطلاق محتجزين في غزة، إلا أنه سقط، بسبب الفيتو الروسي والصيني. وفي ٢٢ آذار ٢٠٢٤ طرحت الولايات المتحدة مشروع قرار آخر لوقف إنساني لإطلاق النار، إلا أنه أُفشل أيضاً بفعل فيتو من قبل روسيا والصين. واعتبر البلدان أن المشاريع الأميركية تنحاز لإسرائيل، ولم تتضمن إدانة واضحة للانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة، ولم تطالب بوقف شامل ونهائي لإطلاق النار، ولم تدع لمحاسبة إسرائيل على استخدام القوة المفرطة والتجويع. اعتبر السفير الروسي في مجلس الأمن أن مشاريع القرارات الأميركية «تبيّض صفحة إسرائيل في العدوان المستمر على غزة”. ورغم ذلك سمحت الولايات المتحدة بخروج قرار واحد عن مجلس الأمن، جاء برقم 2728 في ٢٥ آذار ٢٠٢٤، ودعا إلى وقف فوري للقتال خلال شهر رمضان، بعد تصاعد الانتقاد الدولي للولايات المتحدة، وتوجه الحلفاء الغربيين لوقف إطلاق النار، وتحركات تشريعيين ديمقراطيين أميركيين واضطرابات في الشارع الأميركي دعماً لوقف الحرب في غزة، فسمحت الولايات المتحدة بإخراج قرار توافقي عن المجلس، لم يستخدم عبارة “وقف إطلاق نار دائم”، ولم يتضمن أي إدانة مباشرة لإسرائيل.
تقع مسؤولية حماية الفلسطينيين من الجرائم المقترفة بحقهم من قبل دولة الاحتلال على المجتمع الدولي ومؤسساته. وتعد الأمم المتحدة المنظمة الدولية التي جاءت لصون الأمن والسلم الدوليين، اللذين انتُهكا بشكل فاضح خلال هذه الحرب، وهو ما أكدت عليه تحقيقات وتقارير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. ولأن مجلس الأمن هو الجهة المخولة بالتحرك العملي لمعاقبة المعتدي وتحقيق الأمن، ولأن الولايات المتحدة تعطل القرار بالتحرك لردع إسرائيل، فقد تقع المهمة الآن صراحة على عاتق الجمعية العامة، المكلفة أيضاً مع مجلس الأمن بتحقيق هذه المهمة. ففي ظل منظومة دولية لم تنجح دائماً في تحقيق العدالة والسلم والأمن الدوليين، أي في تحقيق المهمة الأصلية التي جاءت من أجلها، بسبب قواعد رسّخها الميثاق، ترجح الاعتبارات السياسية وتوازن المصالح بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تنبهت الجمعية العامة لذلك في خمسينيات القرن الماضي، وأصدرت قراراً يعرف بـ «الاتحاد من أجل السلام». رغم أن هذا القرار جاء بمبادرة من الولايات المتحدة، للخروج من أزمة تعطيل عمل مجلس الأمن في تحقيق الأمن والسلم الدوليين خلال تلك الفترة، تجنباً لفيتو الاتحاد السوفيتي. ورغم أن هذا القرار استخدم خلال الحرب الباردة، فإنه يمكن أن يعكس اليوم قرار الإجماع الدولي بشكل ديمقراطي، بما تحيد الفيتو الأميركي في مجلس الأمن. تستطيع دول العالم بشكل فردي أو جماعي أو مؤسسي عبر الجمعية العامة التحرك الفوري لردع إسرائيل وفرض وقف الحرب والمجاعة والقتل بحق الفلسطينيين. يمكن لتلك الدول التلويح بعقوبات دبلوماسية واقتصادية وحتى عسكرية، من خلال قرار الاتحاد من اجل السلام، أو حتى بدونه، دون الحاجة للعودة لمجلس الأمن، والاكتفاء بتحقيق العدالة من خلال إجماع الإرادة الدولية الملتحمة من أجل تحقيق العدالة. إن العالم الحر اليوم أمام اختبار صعب، فإما أن ينجح في إرساء الأمن السلام في فلسطين، ومنح الثقة بمنظومة المؤسسات الدولية والقوانين والمعاهدات، وإما أن يثبت فشل تلك المنظومة وصوريّتها، بخدمتها فقط لمصالح الدول الكبرى، التي وضعت تلك المنظومة.