ما زال الإقليم على أبواب هاوية أكبر!

عبد المجيد سويلم
ما زال الإقليم على أبواب هاوية أكبر!
يحلو لأشدّ المتحمّسين، والمُعجبين بـ»الانتصارات» الأميركية الإسرائيلية أن يتحدثوا بأريحيّةٍ يُحسدون عليها عن إقليم مزدهر، خالٍ من «الأذرع» الإيرانية، أو أذرعٍ لم تعد تمتلك القدرة على إيقاف مسار هذا الازدهار، وهو المقصود بـ»الشرق الأوسط الجديد».
لا يختلف هذا التقييم عن التقييم الأميركي الإسرائيلي لا في الشكل ولا في المضمون، وهو في الواقع ليس سوى الصدى لما يتحدث عنه دونالد ترامب، ولما يكرّره بنيامين نتنياهو، صُبح مساء، على مسامع المجتمع الإسرائيلي، ويُمنّي به النفس، ويُفسّر به الدوافع الكبيرة لاستمرار الحروب التي يشنّها، وتدافع هذه الحروب على جبهات متعدّدة، بحيث ما إن تهدأ نسبياً وجزئياً جبهة حتى تشتعل أخرى حتى يخال للمراقبين أن القرار الإسرائيلي المنسّق مع الإدارة الأميركية في جوهره هو استمرار الحرب بلا توقُّف، وافتعال المعارك، والبحث عن كل ما من شأنه تأمين هذا المسار.
توجد قاعدة فقهية تقول: إذا طرأ الاحتمال سقط الاستدلال. فإذا كانت أميركا ومعها دولة الاحتلال قد حقّقتا مثل هذه «الانتصارات» فعلاً، فما هي الحاجة لاستمرار هذه الحروب؟ وما هي الحاجة لافتعال المزيد منها؟
أحد الاحتمالات على الأقل أن تكون هذه «الانتصارات» وهمية وواهية. أو أنها «أنصاف انتصارات»، أو حتى انكسارات يتمّ التعويض عنها بالادّعاءات والتصريحات الإعلامية.
ففي الملفّ الإيراني تحديداً بدأت أوروبا بتحديد مسار تفاوضي مع إيران خوفاً من بقاء الملف النووي تحت الأرض، وخوفاً من أن يتحوّل إلى كل ما ترغب به إيران، وبالطريقة وبالشكل الذي يناسبها هي، وينسجم مع تطلّعاتها هي، ووفق مصالحها قبل أي مصالح أخرى.
وإيران ليست مُستاءة من التصريحات والتبجُّحات الأميركية، وتلك الإسرائيلية حول «التدمير»، بل إنها مسرورة بها، وذلك لأنها تخفّف من الضغوط عليها للتفاوض، طالما أنه تم «تدمير» ما كان يتم التفاوض عليه!
وفي الملفّ العسكري لم يعد أحد في هذا العالم يصدّق أميركا أن البرنامج الصاروخي الإيراني الذي كان يعمل حتى الساعة الأخيرة من الحرب بكفاءة عالية من حيث قوة التدمير، ومن حيث دقّة الإصابات قد تم تدميره.
ويتحدث كل مراقبي الملفّ العسكري الإيراني أن إيران تعمل على مدار الساعة لإعادة بناء دفاعاتها الجوي بالاعتماد على صناعاتها العسكرية، وبالاعتماد على دعم صيني وروسي وباكستاني مُعلن.
ثم لماذا يصرّح ترامب بأنه قد يُعاود الهجوم على إيران، طالما أن أميركا قد حقّقت انتصاراً «رائعاً» كما يصف ترامب كل أفعاله؟
لا حاجة كبيرة للحديث عن جماعة «أنصار الله» (الحوثيين) اليمنية لأن الردود الإسرائيلية على ما تقوم به ضد دولة الاحتلال، وما تقوم به من فرض حصار حقيقي في البحر الأحمر عليها قد تحوّل إلى نوعٍ من «الضربات» الأقرب إلى رفع العتب منها إلى ردود جدّية.
وفي لبنان يكاد موضوع «أولوية» سحب سلاح «حزب الله» اللبناني أن يُسحب من التداول بعد أن اكتشف اللبنانيون فجأةً أن ما يضمره نظام «الدواعش» المتحوّرين في دمشق لبلادهم ليس سوى وصفة مضمونة لحرب أهلية جديدة، حتى لا نذهب إلى توصيفات أكبر وأكثر وأخطر.
أما في سورية، وهي البلد الذي سقط نظامها السابق على هيئة هدّية من السماء فإن النظام «المدوعش والمتدوعش» فيها فقد كل توازنه عند أوّل منعطف.
قالوا له في «باكو»، وقالوا له بصريح العبارة: ها نحن نرفع عنك كل قيد، فقد تم «تبييض» «النصرة» من حركة إرهابية على قوائم الإرهاب إلى «عماد» لقيام نظام جديد يُعهد إليه بلعب أدوار «إقليمية» لإخضاع أعداء أميركا وحلفائها الإسرائيليين والعرب، و»لتأديب» كل من تسوّل له نفسه الوقوف في وجه هذا الحلف الذي يسمّى الشرق الأوسط، حتى وإن كانت دولة الاحتلال تلعب دور المُهيمن، ويلعب النظام العربي دور القبول بمجرّد بقائه في إطار هذا الحلف وعدم تهديده بصورة مباشرة في هذه المرحلة على الأقل، والنتيجة حتى الآن فشل وتذابح في الساحل وفي السويداء السوريتين.
وأما في غزّة فقد تعطّلت «عربات جدعون»، ويراوح الاجتياح الإسرائيلي في مكانه، وتوقّفت الهجمات البرّية البربرية بصورة شبه تامّة، وطار النصر الحاسم الذي وعد به نتنياهو ووزير جيشه، ولم تتمّكن «العربات» من حماية جنودها، وتتالي أعداد القتلى والجرحى كل يوم، ويعلن قادة وجُناة الجيش ويصرخون ويستصرخون المجتمع الإسرائيلي بالضغط لوقف الحرب الهمجية، والذهاب إلى صفقة بعد أن فقد الجيش زمام المبادرة، وأصبح يغامر بالغوص في رمال غزّة، من دون خطط عملية، أو أهداف خارج نطاق القتل والإجرام، وجرى استبدال «كامل» خطط «النصر الحاسم» بالتجويع القاتل في تحوّلٍ دراماتيكي نحو أشكال أشدّ من الإبادة الجماعية، والتي تتمثّل بالموت الجماعي، وخلق تشوُّهات خطيرة على صحّة السكان المدنيين على المدى المتوسط والبعيد، إضافةً إلى أعداد الذين يموتون، أو هم مرشّحون للموت جرّاء هذه المسغبة.
تبدو دولة الاحتلال وكأنها تربح المعارك هنا وهناك، ولكنها تخسر الحرب في الواقع، والسبب بسيط هو أنها عندما «تربح» فإنها لا تحسم، والملفّات لم تحسم بالجملة لأنها لم تحسم بصورةٍ منفردة، وعندما تراوح النتائج المترتبة على هذه المعارك مكانها، أو تستنفد أغراضها دون حسم بأي اتجاه سوى اتجاه القوة والإجرام والبطش، فإن المعارك نفسها تتحوّل إلى عبء كبير، وذلك لأن الاستمرار بها لا يضيف سوى الأعباء الجديدة، وتوقفها لا يحمل في طيّاته سوى فتح ملفات داخلية حارقة.
واضح لكل من لديه القدرة على القراءة السياسية الجادّة والموضوعية أن منطقة الشرق الأوسط هي الحصن الأخير لأميركا، إن كان لجهة الثروات أو الموقع أو الممرّات، وواضح أن «الترامبية» قد خسرت كل معاركها الداخلية ضد جماعات التكنولوجيا ممثلة بـ «إيلون ماسك»، وواضح أن ترامب يواجه ضغوطات شديدة من لوبيات مختلفة تحدّ من قدرته على المضيّ قدماً في مشروع «أميركا العظيمة»، وواضح أن الدولة العميقة ما زالت تقاوم مع أن علماء على قدرٍ كبير من سعة المعرفة والاطلاع لا يراهنون كثيراً على هذه المقاومة، إلّا أن المحصّلة النهائية التي تبلورت حتى الآن أن أميركا ليس أمامها سوى هذا الإقليم لإحداث الفرق في مستقبل «الترامبية» كلّها، إذ لا أمل لديه في مواجهة روسيا والصين.
عند هذه الحدود من تطوّر الأحداث في الإقليم لم يحسم شيء نهائياً، والحروب التي وضعت أوزارها مؤقّتاً لم تؤدّ إلى ميلٍ كافٍ أو نهائي في كفّة الميزان، والمراوحة لن تؤدّي ألا إلى المزيد من المراوحة السلبية، ولهذا ليس أمام «الترامبية» سوى أن تستمر مؤقّتاً بإشعال الحروب الصغيرة، والتهديد بالحروب الكبيرة أملاً بالحصول على نتائج تمكّنها من تحقيق درجة أو أخرى من النجاح، أو الادّعاء به على الأقلّ.
وما يسري على «الترامبية» يسري بصورةٍ أكبر، وبصورة أشدّ وأكبر على دولة الاحتلال، خصوصاً أن الفشل بالحسم في الحالة «الترامبية» أشدّ وطأة، وبما لا يُقاس.
نقطة قوّة التوجهات الأميركية والصهيونية كلّها تكمن في الانخراط الأعمى للنظام العربي، وحتى الإسلامي إذا جاز التعبير في كلّ المخطّطات والتوجّهات لتحقيق أهداف هذا التحالف الأميركي الصهيوني «الغربي»، وهو ما يحوّل المراوحة الأميركية والصهيونية، وربّما الفشل والعجز إلى حالة إنجاز، وقد يحوّلها إلى نجاحات معيّنة.
الحروب التي هدأت قليلاً، والتي ربّما تهدأ مؤقّتاً حتى في القطاع ليست سوى مقدّمات لحروب طاحنة، أهلية ووطنية، شاملة وعامّة ستطال الجزء الأكبر من المشرق العربي، وكل حرب أو معركة منها ستشعل أخرى وتدخل على خطوط جديدة، وعلى معارك جديدة، حتى أن مصطلح استراحة المحارب سيكون وصفاً شكلياً ليس إلّا.