نشر بتاريخ: 2025/06/26 ( آخر تحديث: 2025/06/26 الساعة: 11:24 )
عبد المجيد سويلم

انتهت الحرب وتغيّرت المعادلات!

نشر بتاريخ: 2025/06/26 (آخر تحديث: 2025/06/26 الساعة: 11:24)

الدخول في مُساجلات ليس لها معيار حول الذي انتصر، وحول الذي لم ينتصر، وكيف انتصر هذا الفريق، وكيف انهزم الفريق الآخر ليس له أيّ قيمة، لا علمية، ولا منطقية طالما أنّ معيار النصر والهزيمة ليس محدّداً، ولا هو معرف بمؤشّرات قابلة للقياس. للتدليل على ذلك تعالوا نأخذ مثالاً واحداً فقط.

لنفترض أنّ معيار النصر والهزيمة هو معيار تدمير الأصول الإيرانية لبرنامجها النووي، على اعتبار أنّ الهدف المعلن من هذه الحرب كان تدمير هذا البرنامج أو إضعافه، أو إعاقة تطوّره، أو منع تحوّله إلى برنامج عسكري لتصنيع القنابل والرؤوس النووية، إذا افترضنا أنّ هذا هو المعيار فنحن أمام عدّة أسباب تجعل عملية القياس عملية مشكوكاً في أهميتها، ومشكوكاً في موضوعيتها إلى أبعد الحدود.

ضربة الصدمة والترويع التي قامت بها دولة الاحتلال كانت، وكما ثبت بكلّ الوقائع تستهدف إسقاط النظام، ولم يكن «هدف» البرنامج النووي هو الهدف، بدليل أنّ الولايات المتحدة الأميركية قد دخلت على خطّ «تدميره» بعد أيّام من شنّ الهجوم الإسرائيلي على كلّ شيء في إيران.

200 طائرة مقاتلة، ومئات من الصواريخ التي انطلقت من البحر، لاغتيال أكثر من 400 شخصية سياسية وعسكرية وأمنية، بمشاركة أكثر من 8000 آلاف من قوى المعارضة، وآلاف من عملاء الموساد والمخابرات الغربية، ثم الإعلام الإسرائيلي الذي بدأ يتحدّث عن إزالة النظام، وبدأ يخاطب الشعب الإيراني مباشرة بتوجيه من أعلى المستويات السياسية، ثم دخول الرئيس الأميركي نفسه دونالد ترامب على خطّ «تغيير النظام» تلميحاً ثم تصريحاً.. كل ذلك يعني أنّ «التركيز» على البرنامج النووي كان سياقاً، وليس أكثر، وغطاءً على هدف إسقاط النظام، وتحوّل الحديث عن البرنامج النووي إلى هدف، ثم إلى ذريعة بسبب فشل هدف إسقاط النظام.

أقصد أنّ معيار تحقيق الهدف من هذه الحرب، ومكانة هذا الهدف في قراءة معادلة النصر والهزيمة ملتبسة إلى حد بعيد، لأنه يصبح مطلوباً منّا في هذه الحالة أن نقبل قياس نتائج وتبعات ليس لها أيّ صلة مباشرة بالمقدّمات والأسباب التي نقيسها. ولو افترضنا جدلاً وسجالاً أنّ كل هذه الحملة الهجومية الضارية كانت مجرّد «تحضيرات» لهدف تدمير البرنامج النووي فعلاً، وأنّ علينا قياس النتائج بالمقدّمات وفق هذا الهدف تحديداً فالمسألة هنا، أيضاً، أكثر التباساً، وأكثر تعقيداً. هنا نحن أمام معايير علمية لا تقبل الحسم على شاشات «الجزيرة» و»العربية» و»العربية الحدث».

هنا ليست تصريحات بنيامين نتنياهو، ولا حتى ترامب هي معيار النجاح من عدمه، وخصوصاً هذين الاثنين تحديداً بسبب سجلّهما الحافل بالأكاذيب والمراوغة والخداع، لأنّ المعيار هنا هو التسرّب، وليس غيره.

يستحيل أن يتمّ تدمير ثلاثة مفاعلات تحتوي على مئات الأطنان، إن لم نقل أكثر، من المواد المشعّة، سواء كانت معالجة، أو في طور المعالجة، وآلاف من أجهزة الطرد المركزي، وعلى معادن أخرى مساعدة ولا ينتج عن «التدمير» الذي تحدّثت عنه الأوساط الإعلامية العربية تحديداً، ثم ما تشدّق به نتنياهو وترامب تباعاً دون أن يثبت حتى الآن على الأقلّ وجود أيّ نوعٍ من التسرّب.

واضح، وسيتمّ الكشف عن مزيد من الوضوح في الأيام القادمة، أنّ الإيرانيين قد احتاطوا بدرجات أعلى من توقّعات نتنياهو وترامب، بل إن كل ما قيل عن الضربات الأميركية لمفاعل «فوردو» كانت تتعلّق باختراق حاجز الـ (90) متراً من الخرسانة، وبمداخل المفاعل، وهو أمر كما يبدو حتى الآن، وكما بدأت أوساط متزايدة في دولة الاحتلال، وفي «الغرب» بالكشف عنه.. واضح أنّ كلّ ما قيل عنه حتى الآن بات في موضع الشكّ والغموض.

الحاجز الخرساني على ما يبدو ليس سوى الطبقة السطحية من المفاعل، لأنّ هناك مئات من الأمتار الصخرية، وأخرى من الطبقات الغرانيتية الصلبة، والتي يُقال إن اختراقها أصعب من اختراق الخرسانة المسلّحة. باختصار كان مستحيلاً تدمير المفاعل إلّا بالسلاح النووي، وهو مفاعل آمن تماماً، ولا يُستبعد أبداً أنّ إيران نقلت إلى المفاعل نفسه كلّ ما أرادت تأمينه قبل الهجوم الإسرائيلي، أو أنها أمّنت كلّ المواد التي تؤدّي «مهاجمتها» إلى التسرّب بالطريقة الآمنة. ونعود هنا إلى تحقيق الأهداف من عدمها.

لا النظام سقط، ولا البرنامج النووي تدمّر، والخسائر الإيرانية مهما كانت باهظة ــ وهي باهظة فعلاً ــ ليست على صلة مباشرة بأيّ من أهداف الحرب على إيران، فكيف انتصر نتنياهو، وما هو معيار هذا الانتصار؟

إيران لم تبدأ الحرب، وكان هدفها هو التصدّي للعدوان على أراضيها، وأن تحفظ وتحافظ بقدر ما هو ممكن ومتاح على مقدّراتها، وكان لها ذلك بدليل أن فشل الأهداف الأميركية والإسرائيلية قد أدّى إلى تحوّل الحرب إلى تقاصف تتفوّق به دولة الاحتلال جوّاً واستخباريّاً، وتتفوّق به إيران قصفاً صاروخياً دقيقاً ومؤلماً، وبما يعادل في بعض الأحيان القوّة التدميرية للغارات الجوّية. وبالاستناد إلى قدرٍ مهم وكبير من المعلومات الاستخبارية، ومن هذه الزاوية بالذات فقد تفوّقت إيران في ثلاث مسائل على أعلى درجات الأهمية:

الأولى، هي ذهول المجتمع الإسرائيلي من شدّة ودقّة القصف الإيراني، وهو القصف في/ وعلى مراكز المدن الإسرائيلية، وهي مسألة تحصل للمرّة الأولى بهذا القدر من الأذى والإيلام والتدمير.

وقد رأينا عمليات الهروب، ولاحظنا علامات اليأس والإحباط بادية بكلّ وضوح، وكانت المدن الرئيسة على أبواب نزوح أعداد ضخمة، بعد حالة من الإرهاق النفسي، ومن النزول إلى الملاجئ وصولاً إلى تحذيرات رسمية إسرائيلية بأن الوضع لم يعد يحتمل المزيد.

الثانية، سقوط مدوّ للدفاع الجوّي الإسرائيلي، واستباحة الأجواء، عندما يتعلّق الأمر بالصواريخ الإيرانية الثقيلة والمتطوّرة، مقابل استباحة الأجواء الإيرانية أمام الطيران الحربي الإسرائيلي حتى ولو كانت الاستباحة الإسرائيلية للأجواء الإيرانية أكبر وأوسع وأشمل.

الثالثة، هي ضرب منشآت حسّاسة إسرائيلية، وأهداف على أعلى درجات الأهمية من التدمير، مقابل تدمير في إيران دون أن يكون للتفوّق الإسرائيلي أفضلية كبيرة في نوعية الأهداف المدمّرة. فبأيّ معنى كان هناك انتصار إسرائيلي وأميركي على إيران، وما هي مقاييس هذا الانتصار مقارنة بالأهداف، ومقارنة بالأهداف المباشرة تحديداً، الصريحة والمواربة؟

فإذا كانت الأهداف الإسرائيلية والأميركية هي تغيير الشرق الأوسط، ووضعه تحت الهيمنة الإسرائيلية كما يقول نتنياهو، فهل كانت هذه الحرب في ما أفرزته من نتائج وتبعات في خدمة هذه الأهداف أم بالضدّ منها تماماً؟

لقد تبيّن بوضوح لم يعد يقبل الجدل أنّ دولة الاحتلال، بكلّ ما تملكه من قوّة وبطش وجبروت وغطرسة عاجزة عن الدفاع الإستراتيجي عن نفسها، وهي تحتاج إلى كلّ قوّة وجبروت أميركا لتأمين مثل هذا الدفاع، وتحتاج إلى كلّ مقدّرات «الغرب» الاستخبارية، والتقنية لتأمينه، وتحتاجه كلّه، أيضاً، لتأمين وجودها وبقائها قبل أن تحتاج إلى توفير شروط انتصارها، مع أنّها استندت في هذه الحرب منذ صبيحة «طوفان الأقصى» الشهيرة، وإلى يومنا هذا إلى كلّ هذا الدعم، وإلى واقع عربي وإسلامي لم يكن على هذه الدرجة من التخاذل والهوان، إذا لم نقل على هذه الدرجة من المساهمة الفاعلة، المعلنة والمخفية في مجهودات الدولة العبرية لتغيير الشرق الأوسط، وقلب معادلاته، وفي محاولة تأسيس واقع من الهيمنة عليه.

ولسوء حظّ دولة الاحتلال فقد تبيّن الآن أن أميركا لم تعد ترغب، ولم تعد قادرة على التورّط في حروب كبيرة، ولا التورّط في المشاركة المباشرة فيها، ولسوء حظّها، أيضاً، فإنّ التخاذل والهوان العربي والإسلامي ليس فقط هو من النوع المؤقّت تاريخياً، وإنّما تحوّل في ضوء نتائج هذه الحرب تحديداً إلى عابر، وسينقلب سريعاً على شروط تخاذله نحو استدارات سريعة، بل ونحو مفاجآت لم تخطر للذين خطّطوا لها.

وأمّا المجتمع الإسرائيلي فقد فهم وأدرك بعمق لم يسبق له أن أدركه من قبل، أنّ زمن الحروب «البعيدة» عن هذا المجتمع قد ولّى إلى غير رجعة، وأنّ على الإسرائيلي أن يدفع ثمناً باهظاً من أمنه، ومن استقراره، ومن وجوده، ناهيكم عن رغد عيشه، ورفاهيته، وهو تحوّل إلى أعلى درجات الأهمية في معادلات الصراعات المستقبلية كلّها، لأن خيار التمسّك بالبقاء في الدولة العبرية، وفي تحمل تبعات هذا التمسك قد بدأ بالتحوّل التدريجي، وقد لا يكون تدريجياً بالكامل، من خيار معيشي، إلى خيار مشفوع بالانتماء العقائدي والسياسي، وهو بهذا المعنى سيتحوّل إلى نزف بشري نوعي وجديد وخطير على وجود ومستقبل الدولة العبرية.

كل هذا دون أن نتحدث عن الخسائر الاقتصادية، وهروب رؤوس الأموال، وتكاليف إعادة الإعمار والترميم، والخسائر التي أصيب بها جيش الاحتلال، وتردّي كلّ المستويات المعيشية، ودون أن نتحدّث عن العزلة الدولية، ودون العودة السريعة إلى أعلى درجات الانقسام السياسي، وربما الاجتماعي والديني مع نهاية هذه الحرب. بالمقابل، إيران تحرّرت الآن من وكالة الطاقة الذرّية ودورها، وتحوّلت الوكالة من سلاح بيد «الغرب»، إلى سلاح بيد إيران بالتهديد الإيراني بتعليق التعاون معها في أيّ ظرفٍ مناسب. وطالما أن إيران تمتلك كل مقوّمات التصنيع العسكري للسلاح النووي كما يدّعي «الغرب» كلّه فقد تتوفّر لها فرصة جديدة تختلف بعد هذه الحرب عمّا كانت عليه قبلها.

ناهيكم أنّ كل عاقل يعرف أنّ تصريح ديمتري مدفيدف نائب الرئيس الروسي حول القدرة على امتلاك الرؤوس النووية من قبل إيران إذا أردت لم تكن للتسلية والمزاح، وفي ظنّي أنّه كان يتحدث عمّا حصل، وليس عمّا يمكن أن يحصل.

وإيران لديها فرصة الآن لبناء منظومات جديدة للدفاع الجوّي أكثر نجاعة ممّا كانت تمتلك، ولديها فرصة لاستخلاص العِبر من مخزونها وترسانتها الصاروخية، بحيث تصبح الأخيرة خارج أيّ حرب قادمة جديدة على المسّ بها.

معادلة النصر والهزيمة واضحة أشدّ الوضوح، وهي مهما كانت ملتبسة فإنها في كلّ الأحوال ومطلقها قد غيّرت المعادلات لمصلحة إيران، أما انعكاسات الحرب الإبادية والاقتلاع على قطاع غزّة، وعلى فلسطين، فهي عنوان وعناوين المقالات القادمة.