نشر بتاريخ: 2025/06/25 ( آخر تحديث: 2025/06/25 الساعة: 11:21 )
فيحاء عبد الهادي

قالت شهرزاد: رواية عائشة ستوم من غزة

نشر بتاريخ: 2025/06/25 (آخر تحديث: 2025/06/25 الساعة: 11:21)

ولما كان اليوم الثلاثمائة وسبعة عشر، للإبادة الجماعيّة، لغزة الأبيّة، ومع تباشير يوم الأحد، الثامن عشر من آب، من العام ألفين وأربعة وعشرين ميلاديّ، والرابع عشر من صفر، من العام ألف وأربعمائة وستة وأربعين هجريّ، وبعد أن واصل الجيش الإسرائيليّ الاستعماريّ قصفه العشوائيّ، لمناطق متعددة بالقطاع الفلسطينيّ، اشتملت على شقق سكنيّة، في شارع الهوجا في مخيم جباليا، وفي بلدة عبسان الكبيرة شرقيّ خان يونس، وفي منطقة حكر الجامع، في دير البلح، وفي مخيم النصيرات؛ نتج عنها قتل/استشهاد أكثر من خمسة وعشرين فلسطينيًا، وجرح اثنين وسبعين، وكان جهاز الدفاع المدنيّ، في قطاع غزة، قد أعلن هذا اليوم؛ أنه رصد تبخر جثث ألف وسبعمائة وستين شهيدًا؛ بسبب استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا، ورصد اختفاء ثمانية آلاف ومائتين وأربعين جثة شهيد/ة، لم يعلم مصيرهم/ن منذ بدء العدوان، عام ألفين وثلاثة وعشرين؛ حدّثتني جمانة أبو نحلة قالت، حدّثتني عائشة سمير ستوم - المعيدة في جامعة الأزهر، التي تحمل درجة الماجستير في مناهج وطرق التدريس، والمصمِّمة المستقلّة للرسوم المتحرّكة - عن رحلة تهجيرها المريرة والقاسية، من بيتها في الرمال/غزة، إلى مدينة النصيرات/محافظة دير البلح، وعن عودتها إلى بيتها في محيط مستشفى الشفاء/غزة، ثم إقامتها عدة أسابيع في مستشفى الشفاء، واضطرارها لمغادرته بعد مهاجمته وتدميره، إلى مدينة رفح، ثم إلى مصر، مرافقة لعمتها، في رحلة علاجها من مرض السرطان.

لم تصف عائشة ما حدث ويحدث بأنه حرب، أيها الجمهور «السعيد» ذو الرأي الرشيد؛ لأن الحرب كما قالت، تكون بين جيشين اثنين، ولا تكون بين محتل وشعب تحت الاحتلال. ووصفت ما حدث بأنه إبادة جماعيّة، كلها قسوة ووحشيّة.

روت كيف نزحت ثامن أيام العدوان، إلى مدينة النصيرات، بعد أن تلقت العائلة إنذارًا بالإخلاء، وإثر القصف الجنونيّ - القريب من بيتهم - الذي كان يطلق الأحزمة الناريّة، ذات الحمم البركانيّة، التي تقتل كل من تصيبه، أو تسبِّب إصابات بالغة، وتخلِّف دمارًا هائلًا، في أحياء غزة السكنيّة، ومناطقها العمرانيّة، ومنشآتها الصناعيّة، والتجاريّة، مما يذكِّر، يا سادة يا كرام، بالمرّة الأولى التي استخدم فيها الحزام الناريّ، حين قصف الجيش الألمانيّ، بواسطة الطائرات الحربيّة، مدينة وارسو البولنديّة، أثناء الحرب العالميّة الثانية.

وكان أيها الأفاضل، أن حملت عائشة بعض أغراضها الشخصيّة، وشهادتها الجامعيّة، وجهاز الكمبيوتر المحمول، في حقيبة حملتها على كتفها، وحمل أشقاؤها وشقيقتها أكياسًا تحتوي على ما خفّ حمله من مستلزماتهم، وانطلقوا إلى النصيرات تسعة أفراد في سيارة واحدة. ومن المفارقة التي وصفتها الصبية بالكوميديا السوداء؛ أن أشقاءها حملوا كيس القمامة معهم، دون أن ينتبهوا سوى في منتصف الطريق؛ انفجروا بعدها ضاحكين.

روت عائشة عن معاناتها خلال رحلة الرعب التي خبرتها، مع عائلتها، منذ أن تركت بيتها. مشت السيارة على طريق البحر، وكان القصف يأتي من البحر ومن الجوّ، حتى وصلت إلى النصيرات، حيث تقيم خالتها، وبقيت عندها أحد عشر يومًا، إلى أن تمّ تهديد بيت مجاور لبيت الخالة، وقصف بيت آخر مقابل بيتها، أسفر عن قتل كل من فيه؛ ما جعلها تفكر بالعودة إلى الشمال.

ابتدأت رحلة رعب ثانية؛ وصلت بعدها إلى بيتها، القريب من مستشفى الشفاء. ولم تكد تحسّ بأن الروح قد عادت إليها؛ حتى عاد القصف أشدّ وأعنف، وقطعت الكهرباء، ونفد الغاز. تمت محاصرة البيت بالقذائف، والأحزمة النارية من جديد، وبدأ العدوان الإسرائيلي البرِّي، ولم تعد هناك إمكانية للرجوع إلى النصيرات، وتلقت العائلة ليلًا إنذارًا ثانيًا من الناطق «السفيه» باسم الاحتلال؛ بضرورة إخلاء البيت. وكما حدث في النزوح الأول؛ حمل كل فرد من أفراد العائلة حقيبة صغيرة في يده، أو على ظهره، وعاد السؤال الكبير ليتجدّد: إلى أين؟

كان القرار النزوح إلى مستشفى الشفاء، حيث الإحساس المفترض بالأمان. لم تكن تعرف حاله الكارثيّ، ووضعه المأساويّ. رأت عائشة حين وصلت شهداء وجرحى بالمئات، ونازحين بعدد لا يقلّ عن خمسين ألفا، ولم تجد مترًا في متر يمكن الجلوس فيه. نصحها إخوتها الشباب بالصعود إلى المبنى الثالث أو الرابع. فجلست لساعات طويلة، في صفّ على الدرج، وساد الهرج والمرج، حيث الاكتظاظ السكانيّ، ونحيب أهالي الشهداء، ولوعة أهالي الجرحى، وصراخ الأطفال.

لم تجد مكانًا للجلوس فيه سوى ركن في مبنى الولادة، الذي توقف عن العمل. لم يكن هناك أي مجال لاستخدام الحمّام، أو للنظافة الشخصية؛ ما اضطّرّ عائشة وبنات عمّها إلى المغامرة بدخول بيتها - كل يوم ثلاث ساعات - رغم الخطر الكبير عند الدخول والخروج. كن يقمن بالعجن، وإعداد الساندويشات، وتعبئة بعض المياه، لهن ولعائلاتهنّ، وإعداد بعض الطعام اللازم للمرضى، من المتوفر من خزين البيت.

عاشت عائشة وعائلتها أسوأ أيام حياتهم في مستشفى الشفاء. ولم يكن هناك مجال لهم للإقامة فيه سوى نصب خيمة بجانب سوره. وهناك من النازحين من أقام في كارّة، ومنهم من نصب شادرًا داخله نام فيه.

وتمهيدًا لتدميره على بكرة أبيه؛ قام الطيران الحربيّ الإسرائيليّ، بغارة جويّة، استهدف فيها نظام الألواح الشمسيّة، فوق مبنى مجمع المستشفى، كما رمى الطيران على المستشفى القنابل الدخانيّة نهارًا، وقنابل الإضاءة ليلًا، ورمى المناشير التي تأمر كل من فيه بالإخلاء، ولم يكن أمام من اختار البقاء سوى القتل أو القتل.

نزحت عائشة للمرة الثالثة، من الشمال إلى الجنوب، من غزة إلى رفح، عبر الممرّ «غير الآمن»، حيث شهدت فيلمًا جديدًا من أفلام الرعب، الذي تمشي فيه النازحات والنازحون، والجرحى والمرضى، بينما الدبابات إلى جانبهم، والطائرات تحوم حولهم، ويمنعون من النظر إلى الوراء أو الخلف، ويقتل من يتعب ويتوقف عن السير، أو يقف لينقذ مريضًا أو جريحًا، أو يرفض إنزال حقيبته الشخصية عن كتفه. لم يرحم الجيش الإسرائيليّ طفلًا أو شابًا أو شيخًا؛ إنسانًا أو حيوانًا ووووووووووووووووووو

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح.