غزة بلا طقوس للحياة .. لا ثانوية عامة ...!

أكرم عطا الله
غزة بلا طقوس للحياة .. لا ثانوية عامة ...!
الكوفية كالكثير من الأشياء التي فقدها الغزيون الذين يحتضنون بؤسهم لم يذهب طلاب الثانوية العامة لامتحاناتهم هذا العام وللمرة الثانية، وهو أمر كافٍ للتعبير عن مأساة دخلتها المنطقة الأشد حزناً في العالم كيف ولماذا؟
تلك قصة طويلة، لكن الأساس أن إسرائيل التي تستثمر كل شيء تعيد هندسة القطاع من جديد وزراعة الجهل.
المجتمع الفلسطيني في غزة ينهار. هكذا تفعل الحروب حيث تتراجع القيم والمعايير، لكن إسرائيل التي تخوض صراعاً مع وجود الفلسطيني ومع وعيه وثقافته وروايته تمعن في صناعة هذا الانهيار. فالقصص التي تأتي من غزة تعكس المستوى الذي وصلته فالحروب تفعل فعلها في وعي البشر لما تخلفه من ترويع ونزوح وهروب، لكن عندما ترافقها حملة تجويع منظمة ومتقنة تعيد البشر إلى مرحلة صراع البقاء وصراع الغريزة الأولى يعني تدمير كل ما راكمه المجتمع الفلسطيني من قيم وأخلاق... فقد انهارت أو تضعضعت تحت ضربات إسرائيل.
غزة التي يتم التنكيل بها بما لم يخترع عقل الشر البشري من أسوأ أنواع التعذيب تعيش منذ عشرين شهراً ما لا يمكن تصوره من العذاب.
وهذا ما تمدد طويلاً على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام والمستشفيات وثلاجات الموتى والمقابر، لكن كل ما كتب لا يكفي لتوصيف الكارثة التي ستمتد لأجيال لاحقة تاركة ندوباً غائرة في الروح.
ماذا يعني أن يتوقف التعليم لعامين ؟ ماذا يعني أن تنشأ أجيال جديدة بلا مدارس ولا تعليم؟ أن يدرس الناس عشر سنوات ويتوقف المستقبل دون الوصول للجامعة هذا بعد أن تحول إلى شريد وطريد وجائع بين الخيام ؟
فبالنسبة للمراحل الأولى يرتبط التعليم بالتربية، وهي التي تعني تحديد سلوك الأفراد وزرع القيم مبكراً وعندما تتوقف تلك فعلى المجتمع السلام.
في كل عام من أعوام غزة وماضيها الجميل كانت فترة تقديم الطلاب للثانوية العامة تتحول إلى ورشة كبيرة وإلى موسم من الفرح المكلل بالأحلام الكبيرة في منطقة كأنها خلقت لدفن أحلام البشر قبل أن تبدأ بحملة دفنهم هم وأحلامهم فرادى وجماعات، من مات مات ومن بقي مجرد بقايا روح كسيحة تجر نفسها بتثاقل نحو قدر يكتب لهم بالحبر الأشد سواداً أياماً لم تكتب على من هم من قبلهم ...مسكينة هي غزة.
أذكر ذلك الموسم بتفاصيله حيث كانت غزة تدخل قبل شهر في حالة استنفار تدخل فيها البيوت التي لديها أبناء سيتقدمون للثانوية هذا العام، لا أصوات ولا مناسبات اجتماعية ولا زيارات تعكر صفو الدراسة لمن يشكل نجاحه أملاً لأسرة كاملة، يكتسب الأمر خصوصية في منطقة كقطاع غزة بكتلة اللاجئين الأكبر التي حرمت من كل شيء عندما تم طردها من مدنها وقراها فلم تجد غير التعليم وسيلة لعودة الروح والحياة، لذا كان التعليم يأخذ طابعاً أشبه بالقداسة بل اعتبر معياراً أبرز لنجاح الفرد في المجتمع، للذكريات المحشوة بالحزن أن تتذكر تفاصيل فرح كأنه كان مجرد ضيف عابر على غزة التي عقدت قرانها على الحزن.
في ذروة الصراع بين إسرائيل وإيران هاجرت وسائل الإعلام هناك تاركة غزة تُقتل على مهل وبصمت كعادتها في الموت، فهي ليست مدينة غنية ولا مهمة بل تبدو كأنها زائدة في خاصرة البشرية، وإلا لما صمتت الأخيرة عن كل تلك الإبادة التي تتم كأن إسرائيل تصطاد الناس كحيوانات في غابة لا يحكمها أي قانون.
هكذا بدا العالم المراقب تاركاً تقطيع جسد غزة التي لم تتوقف عن النزيف.
بعد النكبة كان التعليم وسيلة الفلسطيني لاستعادة هويته الوطنية وللحفاظ على قيمه المجتمعية وتماسكه من جديد بعد أن تعرض لتلك الهزة الشديدة، تعلموا في الخيام على الشموع، ساروا مسافات في حر غزة وبردها للوصول إلى المدارس حتى نشأ جيل بدأ في ترميم ذاته ومأساته.
وليس من المصادفة أن تنشأ الحركة الوطنية في غزة وأن معظم أفراد خلية فتح الأولى من أبناء الذين لجؤوا إلى غزة، تحديداً من أبناء المدن التي تم احتلالها في فلسطين.
إسرائيل تعيد غزة لما دون البدايات تمسح عقلها وتشوه وعيها، إنها أسوأ عملية انتقام وأكثرها وضاعة.
إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين تحديداً كانت شديدة الوضاعة كيف ساهمت بتدمير المجتمع وكيف زرعت سوسة العملاء والخيانة وكيف حرضت وكيف استهدفت المدارس والجامعات، فإلى التسعينيات منعت إصدار تراخيص لجامعات في غزة باستثناء الجامعة الإسلامية وذلك في إطار مخطط مواجهة الحركة الوطنية «ورد في كتاب اقتل خالد للصحافي الأسترالي بول ماغوو» أما منع السفر للطلاب ومساومة الكثير «التعليم مقابل التجسس» والعديد من تلك الوسائل المبتذلة التي لم تتواضع في ممارستها كان ضحيتها شعب كامل وصلت ذروة الشر الإسرائيلي حد الإبادة التي تحدث الآن في غزة.
في كل الحروب السابقة كان الفلسطيني يخوض معاركه برأس مرفوع يسقط وينهض من جديد بتماسك مدهش، لكن هذه المرة هناك خطر كبير حيث لأول مرة يحدث هذا الانهيار المجتمعي الذي رافق الحرب والأخطر هو وقف التعليم ...حزينة هي غزة.