عقيدة "أميركا أولاً" في مواجهة تحالف الدم

ديمتري دلياني
عقيدة "أميركا أولاً" في مواجهة تحالف الدم
الكوفية في لحظة يتقاطع فيها منطق الاستراتيجية مع هواجس الغريزة السياسية، اختار دونالد ترمب أن يمنح نفسه مهلة أسبوعين قبل حسم موقفه من الانخراط العسكري الأميركي في الحرب المتصاعدة بين إسرائيل وإيران. هذا التريّث، بقدر ما يعكس برودة ظاهرية، يكشف عن صراع معقّد داخل بنية القرار الأميركي، تحكمه توازنات دستورية، واصطفافات داخلية في الحزب الجمهوري، واعتبارات جيوسياسية تتخطى حدود اللحظة المشتعلة.
ترمب ليس رئيساً تقليدياً. لطالما شكّل حضوره في المشهد السياسي الأميركي انعطافاً عن المألوف، يميل إلى اتخاذ القرارات بوصفها امتداداً لرؤيته الفردية، أكثر منها نتاجاً لتوافق مؤسسي. ومع ذلك، فإن قرار الحرب لا يزال خاضعاً لبنية قانونية وضعتها الجمهورية الأميركية لتقييد اندفاعات السلطة التنفيذية. قانون صلاحيات الحرب لعام 1973، الذي وُضع بعد كارثة فيتنام، لا يزال يحكم قدرة الرئيس على خوض نزاعات دون موافقة الكونغرس. ورغم أن ترمب تجاوز هذه القيود جزئياً في عملية اغتيال قاسم سليماني عام 2020، إلا أن السياق القانوني اليوم أكثر تعقيداً، بفعل تحديات قضائية تطوّقه على جبهات عدّة، وكونغرس أكثر انقساماً.
في المقابل، تُمارَس على ترمب ضغوط متصاعدة من داخل الحزب الجمهوري، تدفعه باتجاه الدخول المباشر في الحرب. التيارات الإفنجيليكانية التي تُشكّل عمادًا أساسيًا في بنيته الانتخابية، إلى جانب مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل والتي تتقاطع في توجهاتها مع بقايا تيار "المحافظون الجدد"، تنظر إلى الموقف المتشدد من إيران باعتباره تأكيدًا ضرورياً للتحالف الاستراتيجي مع تل أبيب. وعلى المستوى الانتخابي، فإن الاصطفاف العلني إلى جانب إسرائيل يُعد ورقة رابحة في ولايات مفصلية، حيث تُعتبر مواقف الدعم غير المشروط لإسرائيل من المؤشرات الحاسمة في كسب أصوات القاعدة "المحافظة".
لكنّ هذا الميل لا يمضي دون عوائق. ترمب يدرك أن غالبية قاعدته الشعبوية تنفر من المغامرات الخارجية. عقيدة "أميركا أولاً" التي روّج لها ترمب بنفسه تكوّنت كردّ فعل على حروب مكلفة في العراق وأفغانستان. الانخراط في نزاع مفتوح مع إيران، بكل ما يحمله من تبعات على الاقتصاد وأسعار الطاقة وسوق العمل، قد ينسف صورة "رجل الاقتصاد" التي يسعى لاستعادتها مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس والتي يسعى من خلالها على الحفاظ على هيمنة الحزب الجمهوري على المشهد التشريعي.
ثمّة فلسفة في هذا التريّث تنطلق من إدراك لمعادلات القوة. ترمب لا يملك اليوم تفويضاً شعبياً أو دستورياً واسعاً كما كان في ولايته الأولى. وهو يدرك أن قرار الحرب سيعيد رسم خريطة العلاقة بينه وبين المؤسسة العسكرية، وبين الحزب الجمهوري وقاعدته، وبين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
الأرجح أن ترمب يبحث عن معادلة رمادية تتيح له الظهور بمظهر الحليف دون أن يتحمّل كلفة الدم. الدعم الاستخباراتي والتقني لإسرائيل، مع السماح بهامش من العمليات النوعية غير المنسوبة علناً، يُمكن أن تشكّل تسوية مؤقتة، تلبّي ضغوط اللوبيات دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة. في المقابل، يحتفظ ترمب بخيوط القرار في يده، ليستخدمها كورقة تفاوضية أمام خصومه الديمقراطيين أو كأداة لاستعادة بريقه الانتخابي في اللحظة المناسبة.
إن لحظة القرار الأميركي اليوم هي مرآة لعمق التحوّل الذي أصاب مؤسسة الحكم في واشنطن. فبين توازن السلطات ونزعات التفرّد، وبين متطلبات القانون وضغوط الشارع، يقف ترمب في قلب معادلة لا تُحسم بالحسابات وحدها، بل بالقدرة على توظيف اللحظة التاريخية لصالح مشروع ترمب السياسي الشخصي. والشرق الأوسط، في كل هذا، ليس سوى ميدان آخر يجري فيه اختبار حدود العقل الأميركي ومحدودية أخلاقه.