نشر بتاريخ: 2025/06/19 ( آخر تحديث: 2025/06/19 الساعة: 14:11 )
عبد المجيد سويلم

نتنياهو وإستراتيجية التوريط الدائم

نشر بتاريخ: 2025/06/19 (آخر تحديث: 2025/06/19 الساعة: 14:11)

الكوفية بالرغم من أن ما كتبته، وما سأكتبه لا يلقى رواجاً «شعبياً». على جانبي هذه «الشعبية»، جانب الذين يرون أن الحرب ستنتهي بانتصار إسرائيلي «مؤكّد»، أو جانب الذين يرون في هذه الحرب، حرب الانتصار الإيراني «المؤزّر».. بالرغم من كل ذلك فإن لهذه الحرب من الأبعاد والتبعات ما هو أكبر بكثير مما يتمّ الحديث عنها وبشأنها في العالم كلّه، وفي الإقليم، وفي الأوساط المباشرة المنخرطة فيها.

وإذا كان من عنوان حقيقي لها فهو حرب الورطة والتوريط. فهذه الحرب تمّ شنّها للخروج من ورطة، أصبحت واضحة للغاية، ولم تعد تحتاج إلى عناء كبير في شرحها.

قبل شنّها كان الوضع الداخلي الإسرائيلي في غاية التأزيم. موقف عالمي يشتدّ حول عنق الحكومة الإسرائيلية، شعوب العالم تنتفض ضد دولة الاحتلال، و»الغرب» المساند تاريخياً بدأ بالانتقاد الشديد، وشرع بالإجراءات، وأصبح الحديث عن العقوبات علنياً وفي البرلمانات، والوضع الحزبي وصل إلى الإصرار على حلّ الكنيست، والحالة الجماهيرية هائجة ضد سياسات الحكومة في استمرار الحرب على قطاع غزّة، وأصوات مؤثّرة في الولايات المتحدة الأميركية بدأت بالحديث عن استنفادها الغرض منها، وأميركا قبل غيرها فهمت أن وقف الحرب في غزّة سيعني «نصف انتصار تكتيكي، ونصف هزيمة إستراتيجية».

فما هو الحلّ مع هذه الورطة؟

في المكالمة الشهيرة، مكالمة الـ 40 دقيقة الشهيرة إيّاها، والتي أشرنا إليها في المقال السابق، تم الانتقال إلى خيار الحرب على إيران، وتم الاتفاق على الخدعة، بعد أن تم تفعيل أدوات ضربة الصدمة والترويع، وتحضيرها بالتزامن مع الهجوم الجوّي، وكان الهدف إحداث الفوضى وصولاً إلى خروج مئات الآلاف إلى الشوارع، وكان هدف قتل المرشد علي خامنئي على رأس القائمة، وكانت المراهنة في أن النظام سيتداعى ويسقط.

وكانت الضربة مذهلة، والأدوات على أعلى درجات الدقّة والتأثير، وكانت كفيلة ــ من وجهة نظر الذين شنُّوا الهجوم ــ بإحداث الخلخلة المطلوبة لحالة الفوضى التي تسبق سقوط النظام.

لكن نجاح الضربة من زاوية التأثير والفعالية الفنية والتقنية التكتيكية لم يترافق مع المراهنة السياسية، وفشلت الضربة.

هنا دخل دونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو في طور جديد من الورطة، وتخلّص الأخير من الأزمة الداخلية، ونجح نجاحاً باهراً هنا، أيضاً، بامتصاص الحالة، وعاد ليرسم صورة المخلّص والمنقذ، مقابل الصورة الباهتة والمشينة التي ظهر بها ترامب كعميل استخباري من الدرجة المتوسّطة.

عندما ردّت إيران، وتدرّجت بالردّ نحو إحداث صدمة مقابلة، في حجم الدمار، ودقّة الإصابات، والتحكُّم بإيقاع القصف الصاروخي تعمّقت الورطة، وأصبح الانتقال الأميركي الإسرائيلي إلى مرحلة جديدة من التصعيد «حتميّاً».

في هذه الأثناء تمّ الانتقال إلى ضرب البنى والمؤسسات الإيرانية، وقامت الطائرات الحربية الإسرائيلية التي بدت حركتها أسهل في الأجواء الإيرانية بتهديد السكان، ولجأت إلى تكتيك «الإخلاء»، وهنا كان الفشل هو حليفها، وذهبت المعادلة إلى الإخلاء المقابل، وتوقفت الطائرات الإسرائيلية عموماً، وتراجعت بشكل واضح عن هذا الخط دون أن تتخلّى عنه كلياً بعد.

إلى هنا نحن أمام المزيد من تعمّق الورطة.

كان معروفاً أن إيران ستبدأ حملة تطهير واسعة للاختراقات الداخلية، والتي تبيّن أنها في غاية الخطورة، وكان معروفاً أن زعزعة بنية الاختراق ستقلص كثيراً من إحداث نجاحات نوعية، وبالتالي تدخل الحرب فعلياً في التقاصف، وهو عنوان مرحلة جديدة من الورطة لأنها ليست سوى دخول دولة الاحتلال برجليها إلى الاستنزاف الطويل، والذي تعرف حق المعرفة بأنه الكمين والمصيدة الذي هو عنوان كبير للورطة.

فهم نتنياهو للخروج من الورطة، أو الورطات لا يتوقف عند أيّ حد.

النجاح النسبي في ضربة الصدمة والترويع باتت تقابلها صدمات مقابلة وورطات مؤكّدة وهو ما أدّى فعلياً إلى الانتقال لطلب «العون» الأميركي المباشر، علّه يُطمئن الجمهور الإسرائيلي الذي صُدم بدوره، وبدأ يسأل ويتشكّك وينظر بعين الرّيبة في شرعية الحرب، وجدواها.

التدخّل الأميركي السّافر هو تحويل الورطات إلى توريطات حتى لـ»الغرب» نفسه، لأن تدويل الحرب هو المخرج الوحيد الممكن الآن، والغطاء المناسب للانسحاب منها في أي لحظة لا تستطيع دولة الاحتلال الاستمرار بها، أو المغامرة بالذهاب بعيداً في تعمّقها على كل المستويات.

الحقيقة التي يدركها ترامب، وهو المنخرط في هذه الحرب، والغارق فيها حتى أُذنيه أن التدخل في معمعانها العلني المباشر ينطوي على أخطار حقيقية، وليس افتراضية، طالما أن النظام الإيراني قد بات على علم ودراية أكثر من كافية، بأنها أبعد من المفاعلات النووية، وأكبر من مجرّد تدمير البنية التحتية والمرافق الإيرانية، وأعمق وأخطر حتى من مجرّد تغيير النظام، لأن هذا التغيير سيعني تحول الأمر إلى خطر على وجود الدولة، وعلى مستقبلها، وبنسخةٍ أكثر تطرّفاً من النسخة السورية.

هنا دخلت أميركا في ورطةٍ جديدة، فإما الانسحاب من كل هذا المشهد وترك نتنياهو يتدبّر أموره بنفسه، وتركه وحيداً في تحديد مسار الخروج منها، وهو أمر أصعب على ترامب، وعلى «الغرب»، من تجرُّع السُمّ، أو الذهاب إلى مغامرة المشاركة التي يراهن من خلالها على تراجع إيران، والقبول بحلّ «استسلامي» ينقذه، وكذلك ينقذ نتنياهو، و»الغرب» كلّه، وعليه فإن المعطيات أمامه صعبة ومعقّدة.

الصراع داخل الإدارة الأميركية ما زال لصالح التدخل، ويقال، إن التوازن داخلها يميل لصالح التدخل بشكل أكبر.

فقط ثلث الإدارة ليس مع التدخل، أو ربما أكثر قليلاً، وهو الجناح المخلص لفكرة إعادة بناء الاقتصاد الأميركي، والبحث عن حلول وسط في الصراعات الدولية، وتركيز الاهتمام بالاستثمارات نحو «الازدهار». في حين أن الجناح الإسرائيلي الصرف، و»المحافظين الجدد» مع التدخل بكل قوة وعزم.

الاستخبارات الأميركية ضد التدخل، وحساباتها الدقيقة تحذّر ترامب من التورّط المباشر، ولديها قائمة طويلة من المخاطر، لجهة قطع إمدادات النفط والغاز بحوالى 20% من تجارة العالم، وحوالى 45%، إذا تم إغلاق باب المندب بعد «هرمز»، وهناك تحذيرات مباشرة من تعرّض القواعد الأميركية في الإقليم لضربات موجعة، إضافة إلى تدمير هائل في بنية النفط والغاز في الخليج كلّه.

يضاف إلى ذلك المخاطر التي يمكن أن تطال حاملات الطائرات الحربية والبوارج والمدمّرات الأميركية في بحار الإقليم.

الحزب الجمهوري يؤيّد ترامب، إما لقناعاته أو لتوريطه في قسم منه على الأقل، لكن 60% من الشعب الأميركي ضد التدخل، وهذه النسبة تعتبر فلكية قبل أن يُقتل جندي واحد، وقبل أن يتمّ أي نوع من التهديد المباشر للقوات الأميركية، والمصالح «الغربية»، وحتى للبنى الاقتصادية في منطقة الخليج.

استخدام السلاح النووي ما زال مستبعداً، وهو سيبقى مستبعداً خوفاً من شرعنة استخدامه من قبل كل من يملكه لاعتباراته الخاصة.

لا مجال أمام نتنياهو سوى أن يورّط العالم معه، للخروج من ورطاته التي تتالى تباعاً، فما يكاد يهرب من ورطةٍ حتى يدخل في ورطة أكبر.

راهن نتنياهو على أن هجومه على إيران سيحلّ له كل المشاكل، فإذا بهجومه يتحوّل إلى أكبر ورطة في كل تاريخ مغامراته ومقامراته حتى الآن.

الحقيقة التي أفرزها الأسبوع الأول من هذه الحرب أن نتنياهو وترامب معاً يشكّلان أكبر خطر على الإنسانية والبشرية، وأنهما في وحدة الحال بينهما، وفي اختلاف درجة الأزمة الداخلية لكل واحد منهما باتا الورطة العالمية الأولى، والخطر الأشدّ هولاً على مستقبل العالم.

ترامب المنخرط والغارق بالتورّط والتوريط بات أمام مفترق طرق جديد. فإما أن يعود للانضباط لقواعد اللعبة التقليدية للهيمنة الإمبراطورية الأميركية في أشدّ وجوهها قبحاً وإجراماً، وبالتالي التخلّي عن برنامجه «الترامبي» حول عظَمة أميركا، وإما أن يمضي به قدماً ويغامر بالفشل والإفشال المرجّح. والمشكلة أنّ هذه الحرب مفتوحة على كل الاحتمالات والنتائج حتى الآن.