أعترف أنني كنت دائماً مأخوذاً بالقدرات والأساليب الجهنمية التي يتبعها المفاوض الإسرائيلي، أكان ذلك في مفاوضات سرية أو علنية، أو سياسية أو عسكرية أو تجارية، ولأن ذلك كذلك، فقد خصصت فصلاً كاملاً حول التفاوض الإسرائيلي في روايتي "آخر القرن" التي صدرت عن دار الماجد واتحاد الكتاب الفلسطينيين قبل عشرين سنة بالتمام والكمال.
وأجدني اليوم مضطراً إلى إعادة الكلام منقحاً ومزيداً عن التفاوض الإسرائيلي، فهو في الحقيقة ليس تفاوضاً بل هو استغلال اللحظة واقتناص الظرف، ومعرفة الخصوم والأعداء معرفة دقيقة، والقدرة الكبيرة على تفكيك كل شيء وإعادة تعريف المسميات والوقائع وإعادة التعريفات والمسميات، والصبر الحديدي من استنزاف العدو ومحاصرته ونزع خياراته وشيطنة مواقفه، التفاوض في هذه الحالة هو امتلاك القوة، لنعترف بذلك، القوي هو الذي يدير أي عملية تفاوضية، الضعيف لا يتفاوض بل يهندس خروجه من المشهد، وتكون فضيلته الوحيدة هي تقليل خسائره أو الحفاظ على ما يمكن من ماء الوجه، هذا إن بقيت مياه.
أجدني مضطراً إلى العودة إلى هذا الموضوع بعد كل ما سمعناه وشاهدناه من عمليات تفاوض مضنية وشاقة على مدار سنة وسبعة شهور بين إسرائيل والأطراف العربية والفلسطينية. فقد شهدت تلك العملية الطويلة والمستفزة كثيراً من أسرار علم التفاوض الإسرائيلي وكان منها ما يلي:
أولاً: حددت إسرائيل مضامين وطريقة التفاوض حسب أجنداتها ومصالحها، فلم تقبل بعرض حماس الأول القاضي بإطلاق سراح كل الأسرى مقابل وقف الحرب والانسحاب، وإطلاق أسرى فلسطينيين. إسرائيل عملت من خلال الإيغال في الحرب على فرض طريقة التفاوض ومضامينها. شكل التفاوض يخدم مضامينه، وهذا مبدأ يجب عدم التنازل عنه حقاً.
ثانياً: شيطنة العدو من خلال الإيهام بأنه يتشدد أو يرفض أو يأخذ قراره من أطراف أخرى ومن خلال الادعاء بأنه مغامر ومجنون، ولا يهتم بشعبه، وأنه غير ناضج أو يعاني من تشققات وخلافات داخلية، إسرائيل عادة ما تدعي أن من يحاورها لا يمتلك موقفاً واحداً بل هناك عدة مواقف معتدلة، وأخرى متشددة، وطبعاً، عادة ما تتدخل إسرائيل "لتعديل" الميزان.
ثالثاً: إسرائيل عادة ما توحي أو تملي مقترحات قد تبدو براقة، فتجبر العدو على التسوية بشكل أو بآخر، وفجأة تغير إسرائيل موقفها من التسوية التي اقترحتها بنفسها، هذا التكتيك من أعجب ما تستخدمه إسرائيل، ويبدو أنه يهدف إلى دفع العدو إلى التنازل المجاني أو إمكانية التخلي عن مواقفه، وبالتالي تربح إسرائيل مواقع تفاوضية مجانية.
رابعاً: تجعل إسرائيل من وفدها قضية فرعية تشوش على المفاوضات ذاتها، من خلال درجة تفويض الوفد وتركيبته ومدى صلاحياته، وهي على استعداد للتشكيك بالوفد الذي أرسلته واتهامه بعدم إدارة التفاوض بشكل جيد أو حتى إخفاء المواقف أو التلاعب بها، وهذا أيضاً من أعجب التصرفات الديبلوماسية، حيث تقوم دولة بالتشكيك بوفدها المفاوض.
خامساً: تقوم إسرائيل بإفراغ الوساطة والوسطاء من المعنى والمضمون، وذلك من خلال اتهامهم بعدم الدقة أو الأمانة أو الرغبة في التشويش أو تفجير المفاوضات، وتلجأ إسرائيل إلى محاولة تشكيك الوسطاء بعضهم ببعض، أو شراء بعضهم أو استبعاد بعضهم الآخر.
سادساً: تميل إسرائيل إلى التدقيق في الأمور الإجرائية والتفصيلية أكثر مما تميل إلى نقاش الأمور الجوهرية، إسرائيل تعتقد أن حصولها على إنجازات في الأمور الإجرائية يقربها من أهدافها الكبرى أولاً، ويزيد من إرهاق العدو ثانياً.
سابعاً: بالنسبة لإسرائيل، فإن السردية الإعلامية هي الأهم في التفاوض، فعمليات الشيطنة والتضليل وقنابل الدخان والتضارب في الأخبار والتناقض في المواقف، وتسريب الأخبار وإخفاء المصادر هي جزء أصيل من عملية التفاوض بحيث تؤثر على الجمهور من حيث الشعور بالإحباط أو اليأس أو التفاؤل الكاذب أو الساذج أو التأثير على المفاوض العدو ذاته.
ثامناً: استخدام المفاوضات كوسيلة من وسائل استمرار الحرب في الضغط والإخضاع وإدارة العلاقات العامة وامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية.
رغم ذلك كله وأكثر، لا يعتقدن أحد أن المفاوض الاسرائيلي ذكي – رغم خبراته التاريخية- أو أنه يختلف عن المفاوض العربي أو الغربي، على الإطلاق، فإن ما يسمح للمفاوض الإسرائيلي أن يبدو وكأنه يملك خيارات هائلة وبدائل كثيرة وقدرات عجيبة في التملص أو النجاة هو امتلاكه القوة بكل أنواعها وأشكالها، العسكرية والمالية والدبلوماسية، فالتفاوض في نهاية الأمر ليس مجرد تمرين عقلي أو جدال فقهي أو قانوني أو حتى بهلواني، على الإطلاق، التفاوض هو لغة القوة وفرض شروطها وهو ما عبر عنه الإمبراطور الياباني الذي وقع ورقة الاستسلام أمام الأدميرال الأميركي دون أن يقرأها، فلما سأله هذا لماذا لم تقرأ شروط الاستسلام، قال الامبراطور: سأفعل عندما أمتلك القوة.
أخيراً، واذا كان المفاوض الإسرائيلي يتفوق علينا بقوة عسكرية مذهلة، فإننا نمتلك قوة لم يستطع على الإطلاق أن يكسرها، ألا وهي قوة الأمل.
...............
القوي هو الذي يدير أي عملية تفاوضية، الضعيف لا يتفاوض بل يهندس خروجه من المشهد، وتكون فضيلته الوحيدة هي تقليل خسائره أو الحفاظ على ما يمكن من ماء الوجه هذا ان بقيت مياه.