تذكرون مقولة القائل إن التطبيع ما هو إلا قبول رواية "الآخر"، لم يعد الأمر كذلك، فالتطبيع هو القبول بالرواية واعتياد الموت والدمار والنزول عند شروط الآخر وطلباته، التطبيع أكبر من مجرد "قبول الرواية" وكأنها نوع من الجدل الذهني، فالتطبيع اليوم هو ما قاله عضو الكنيست عن الصهيونية الدينية حول قبول العالم قتل مئة فلسطيني دون تذمر أو شكوى أو استنكار، والتطبيع هو اعتياد مشاهد تدمير المدن ونسفها عن الخارطة، وهو ابتذال المعاني وانتهاك القانون وإهانة الإنسانية واحتقار الأديان، وهو أيضاً الانقلاب على المعايير وانتقاء الأخلاق واستخدام الشعارات بما يخدم السياسات.
لم يعد الأمر قبول رواية الآخر، بل تعداه إلى ما هو أكثر بكثير من ذلك، فالتطبيع هو أيضاً الاستسلام والخضوع للهيمنة والنفوذ، وهو التخلي عن الدور وعن الرؤية وعن المصلحة أيضاً، هو التطبيع مع مظاهر الدياثة العائلية في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو التطبيع مع مشاهد الشذوذ والاحتفال به، وهو القبول بالعدوان على الرموز والمقدسات الإسلامية، وهو مكافأة العدو ومعاقبة الشقيق، وهو الاستدارة الكاملة للانتماءات الأصيلة بحثاً عن حماية مشكوك فيها أصلاً، والتطبيع هو التخلي والتولي عن الأهداف والمرجعيات، والتطبيع هو التظاهر بالحداثة والعالمية رغم الحصار والاستباحة وطلب الحماية والتمويل والشرعية من الخارج، والتطبيع هو القبول بالغربة في المنهاج المدرسي وعقم المنهج الجامعي والخضوع والتنكر للهوية الوطنية أو القومية الجامعة بحجة محاربة الكراهية والتطرف.
التطبيع هو سحب الدسم من الفكرة والجسد والدماغ، وهو فرض التسوية بالقوة وهو الاستعداء والاستعلاء والاستقواء دون مقاومة أو حتى التفكير بها.
التطبيع هو ألا نجد الخيارات ونعدمها، وألا نجرب من جديد أو ألا نعتمد على مواردنا وكفاءاتنا وشعوبنا، التطبيع هو أن تقبل ما يعرض عليك دون نقاش أو جدل، وأن تقبل أن تكون أرضاً للملعب لا من اللاعبين.
التطبيع هو القبول بالعشوائية والارتجالية والعنف والفقر والجهل وعدم تداول السلطة وعدم السماح بالحوار وبشروط ومعايير الدولة الحديثة وشروط الحكم.
التطبيع بهذا المفهوم هزيمة فكرية وأخلاقية وسياسية وعسكرية، لأن التطبيع نقيض العلاقة الطبيعية، فهو إلغاء وإلحاق وضم من جهة وهو استنزاف واستنفاد من جهة أخرى، التطبيع ليس إرساء لعلاقة طبيعية بل هو الاسم الحقيقي لعلاقة تقوم على الإكراه والجبر بهدف الحماية أو الرضا أو الاحتلال أو كل ذلك مجتمعاً.
والتطبيع لا يقود إلى نتائج مفيدة أيضاً، لا يقود إلى مزيد من التنمية والاستقرار والتقدم، فهو علاقة غير طبيعية كما قلت، والتجربة الفلسطينية خير مثال على ذلك، فقد أفشل الاحتلال مسار التسوية بالإعلان عن الضم والتهجير، وأجهض مسار المقاومة بالتدمير، وعطل العمل بالقانون الدولي حتى لا نركن إليه أو نحتكم لديه، أما التجربة العربية في ذلك فلم تكن أفضل من ذلك، فالتطبيع أدى فيما أدى إليه في العالم العربي إلى مزيد من الاستقطاب الإقليمي والصراعات البينية وارتهان القرار الوطني والخروج على ثوابت الإقليم ولا أقول ثوابت غير ذلك. وبدا التطبيع في ذلك انتصاراً لإسرائيل وتراجعاً كبيراً للإقليم كله بكل ما فيه، وهو ما يدعو إلى النظر في كل شيء؛ النظام والثقافة والجمهور ومنظومات الإدارة والعمل. التطبيع لم يؤد إلى تعاون وشراكات وسلام وتسويات، بل إلى مزيد من التعقيد والتشابك. ببساطة لأن التطبيع علاقة لم تؤسس على الندّية والشراكة والاقتناع.
العلاقة غير السويّة هذه، هي التي أدت وستؤدي إلى ما نحن فيه من الضياع والتيه، فهذه العلاقة هي المسؤولة عن التصدعات السياسية الكبرى التي بدأت منذ أوائل الثمانينات، ويبدو أن الوقائع التي تنكشف سراعاً تنبئ عن علاقات وصداقات قديمة جداً، ولم لا، فالهزيمة لا تأتي دفعة واحدة، بل هي تراكم الفشل والضعف والغياب والارتهان والاستلاب.
أقول ذلك بمناسبة أن إسرائيل تمارس ضدنا حرباً سهلة ومريحة، فلا ضغوط أميركية، بل دعم مستمر وعلني، ولا اعتراضات إقليمية، ولا معارضة إسرائيلية كافية. ولهذا فإن إسرائيل – ولأسبابها المتعددة- ترى في الاستمرار بالحرب ضرورة ليس فقط للصورة العامة، وليس فقط لتحقيق النصر على أشباح، وإنما لأن الحرب مطلب أكبر من إسرائيل أيضاً، هذه الحرب تريد منها إسرائيل وأمريكا والغرب الاستعماري عموماً أن تحصل على هدوء في المنطقة لمئة عام على الأقل. التطبيع، بهذا المفهوم، جزء أساسي من هذا المسعى.
..............
التطبيع هزيمة فكرية وأخلاقية وسياسية وعسكرية، لأن التطبيع نقيض العلاقة الطبيعية، فهو إلغاء وإلحاق وضم من جهة وهو استنزاف واستنفاد من جهة أخرى، التطبيع ليس إرساء لعلاقة طبيعية بل هو الاسم الحقيقي لعلاقة تقوم على الإكراه والجبر.