قناة الكوفية الفضائية

ماذا لو قرّر «اليمين العنصري» التمرُّد على ترامب؟

12 مايو 2025 - 11:41
عبد المجيد سويلم

ما زال البعض يعتبر أنّ أهمّ نظرية سياسية عرفها الصراع كلّه، وفي منطقة الإقليم كلّه، هي نظرية «الحقّ على مين»؛ باعتبارها النظرية التي «تفسّر» لنا جميعاً ومن دون أيّ استثناء كل خفايا وخبايا هذا الصراع.
وما زال البعض يغوص ويتعمّق أكثر فأكثر في أبعاد وتفاصيل هذه النظرية، و»يثري» أطروحاته بالمزيد من الروايات، ويقدم المزيد من «المعطيات» التي «تثبت»، وبما لا يدع مجالاً لأي شك من أيّ نوعٍ كان، أنّ «الحقّ على مين» بسحرها الذي لا يقاوم، ومنهجها «الخارق» هي أمّ النظريات السياسية في العصر كلّه، وأنها وحدها صاحبة الحقّ الحصري، والمصدر الأوحد في كل فقه السياسة، ومصدرها الشرعي المتفق عليه.
أما مناسبة هذه المقدمة، والتي لا تبدو على صلة مباشرة، أو بائنة مع عنوان هذا المقال، فهو ما تسرّب عن بنيامين نتنياهو في لقاءٍ له مع بعض الضبّاط الإسرائيليين عندما دقّ على الطاولة بكلّ قوة، وعندما فاجأ ضبّاطه بالقول: إن خطة اجتياح قطاع غزّة كانت جاهزة منذ العام 2017، وإنها كانت تتضمّن اجتياحاً عسكرياً كاملاً وشاملاً للقطاع، وتدمير قوة المنظمات والقضاء عليها كلياً، وطرد العدد الأكبر من سكانه إلى الخارج للسيطرة على موارده، وإدراجه في خطط «الشرق الأوسط الجديد»!
سقطت هنا، وكانت سقطت قبل ذلك لكل مراقب جاد بعد مؤتمر «دول العشرين»، والإعلان عن «خط الهند»، وبعد عرض نتنياهو لخرائطه الشهيرة في الأمم المتحدة، وغيرها، ومنذ أن تبنّى نفتالي بينيت نظرية الانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه، ومنذ أن أعلن أرئيل شارون الانسحاب من القطاع وقذفه في وجه مصر، وانتظار الاقتتال بين «فتح» و»حماس» على السلطة فيه تمهيداً لسيطرة الأخيرة عليه من أجل تهيئة الأرضية لتدميره وتهجير سكّانه، قبل بينيت، وقبل نتنياهو.. منذ كل ذلك لم يكن لأصحاب نظرية «الحقّ على مين» من خبز يعتاشون عليه قبل «طوفان الأقصى» وحيث وجدوا فيه ضالّتهم، وسنحت الأحداث لهم بفرصة لا تعوّض، فاستمسكوا بها بأسنانهم وأظافرهم باعتبارها نظرية كلّية القدرة في فك شيفرة الصراع في هذا الإقليم.
على كلّ حال عناصر الصراع حول الإقليم أصبحت واضحة للعيان، وأصبحت وجهة الصراع محددة، وتحولت المسألة وانتقلت فعلياً إلى أسبابها الحقيقية وأهدافها الأصلية، وتحولت بذلك نظرية «الحقّ على مين» إلى مادّة هزلية سيتلاشى أنصارها عن مسرح «التواصل الاجتماعي» بسرعة.
لذلك بعيداً عن حالة الهزل السياسي، هناك سؤال مهمّ وجوهري: هل سيقاوم «اليمين الفاشي» التوجّهات «الترامبية»، ويتصدّى لها بكل ما يمتلك من قدرات ومقدّرات، ويعتبرها معركة فاصلة وحاسمة في دوره ومكانته داخل المجتمع الإسرائيلي، أو بعبارة أخرى هل سيخوض هذا «اليمين» هذه المعركة ضد ترامب كمعركة مصيرية، وربما وجودية، أم تراه سينحني للعاصفة حتى تمرّ، أو أملاً بأن تمرّ على «خير»، أم أنّ معركة من هذا القبيل ستعتبر خاسرة، وميؤوس منها، وبالتالي سينفرط عقده ليذهب كل مكوّن منه لكي يبحث عن مصالحه الخاصة دون أي حساب للمشروع الصهيوني الخاص، ودون أن تعرّض نفسها أحزاب «اليمين الفاشي» لأخطار قد تقصيها عن المشهد السياسي، وقد تصفّي الأساس «القانوني» لنشاطها؟
واضح أنّ إمكانية التعايش بين إستراتيجية ترامب القائمة كما بات واضحاً على تهدئة الإقليم لعدّة سنوات قادمة على الأقلّ، بصرف النظر مؤقتاً عن تفاصيل هذه الإستراتيجية.. واضح أنّ التعايش معها هو أمر متعذّر، وأن مثل هذا التعايش لا يحمل إلّا معنًى واحداً وهو الفشل التام لأيديولوجيته، وسياساته.
المجتمع الإسرائيلي مهما كانت درجة انحيازاته «اليمينية» متطرّفة وعنصرية إلّا أنه لن يصل مطلقاً في درجة انحيازه هذه إلى تبنّي فكرة الصدام مع أميركا، خصوصاً مع إدارة ترامب، ومن السهل، ومن «الحكمة» مجاراة «الترامبية» بدلاً من الصدام معها، أو حتى الانخراط في سياساتها بدلاً من معاداتها والاختصام معها.
إذا وقفت الحرب، وفشل مشروع التهجير القسري، والذي هو أحد الأهداف الكبرى في إستراتيجية «اليمين الفاشي»، والذي هو قسري بحكم الأمر الواقع، وهو واقع تحويل الحياة في القطاع إلى مستحيل.. إذا وقفت الحرب بما يعنيه من فشل مباشر لهذا الهدف، وبدأت عملية إعادة إعمار القطاع سينفجر هذا «الائتلاف الفاشي» وينقسم إلى ثلاث كتل رئيسية:
الأولى، وهي «الرسمية» التي يمثلها حزب «الليكود»، وهو قادر على إعادة التكيُّف مع أي واقع جديد حتى ولو خسر جزءاً لا يستهان به من شعبيته ومؤيديه، لكنه سيبقى في دائرة المنافسة السياسية.
الثانية، هي كتلة المتدينين الشرقية والغربية، على حدّ سواء، وهذه الكتلة سيتقلّص نفوذها، ولن يعود المصوّتون لها الذين لهم طابع الثبات النسبي والزيادة الطبيعية في أعدادهم الانتخابية، هؤلاء، أيضاً، معرّضون في حالة سقوط «الائتلاف الفاشي» إلى: إمّا «الموافقة» على التحاقهم بالجيش، وهذا أمر مستبعد إلى أبعد الحدود، أو التعرّض إلى فقد المزايا التي يتمتّعون بها، وفي كلا الحالتين سيتم تراجع كبير من الوزن النوعي لهم، وربما يتحوّلون إلى شيع وفرق لا تربطهم سوى المعونات والإعانات والامتيازات التي ستكون مقلّصة ومشروطة في كل الأحوال.
أما الثالثة، فهي المجموعة، أو الكتلة «الكاهانية» السافرة، فأغلب الظنّ أنها ستتبدّد هي الأخرى بالعجز عن الوصول إلى نسبة الحسم، أو الانشقاقات الداخلية، أو التحاق بعضهم بـ»الليكود»، أو بأحزاب «يمينية» أخرى.
بعد «طوفان الأقصى» انتابت المجتمع الإسرائيلي المنحاز بصورة عامة إلى ثقافة وأفكار «اليمين»، و»اليمين المتطرّف» مشاعر متناقضة. فمن ناحية عاش على وهم أنّ الكيان بات دولة عظمى، جبّارة وقوية، ومؤثّرة في العالم إلى درجة القدرة على تغيير المعادلات في «الغرب»، خصوصاً في أميركا، وأنها تحوّلت ليس فقط إلى دولة إقليمية جبّارة، ومؤّثّرة، وإنّما باتت تنزع إلى ما هو أبعد من كونها دولة مستقلة، وأصبح تفوقها يترجم بالشراكة مع «الغرب» في مشاريعه الكولونيالية من موقع القدرة الخاصة، والشريك الذي لا يُردّ له طلب أو احتياج، وإلى دولة تتّسم مصالحها بالأولوية المطلقة في اهتمامات «الغرب» كلّه.
أما من ناحية أخرى، فقد رأى المجتمع الإسرائيلي هذا الواقع بصورة معكوسة تماماً بعدما انكسرت هيبة الكيان، وانهار جيشه، وعجزت أذرعه الأمنية عن حماية الحدود والتجمّعات، واضطرّت إلى الاستنجاد لحمايته، وهبّ «الغرب» كلّه للحفاظ عليه من الانهيار، أمام قوة عسكرية متواضعة جداً بكل مقاييس المقارنة.. ورأى، أيضاً، هذا المجتمع بأمّ عينه أن كيانه استخدم كلّ قوّته وطاقاته، وكل طاقات «الغرب»، و»حلف الناتو»، وكل استخبارات العالم ومعارفه ومعلوماته وتقنياته من دون أن يحقّق أبسط أهداف هذه الحرب العدوانية والإبادية حتى الآن، وأنّ جيشه لا يملك إلّا القوة التدميرية لسلاح الجو الذي ينفرد به، والقدرة على الاغتيالات وهي مهمّة مدعومة من «الغرب»، وتعود إلى نفس التفوّق الجوي.
أقصد أنّ المجتمع الإسرائيلي فهم الآن أن نفوذ وسطوة كيانه الكولونيالي ليس سوى الصدى المدوّي لصوت «الغرب»، ولصوت أميركا.
إذا أزيحت العقبة الإسرائيلية، وهي حتماً زائلة إذا أصرّ ترامب على المضيّ قدماً في «خطّته» التي سيعلن عنها، فإن قطار الخطّة سينطلق بقوة من محطته الأولى في العاصمة السعودية.
لا يملك ترامب حلولاً للصراع في الإقليم: لكنه يملك عناصر كثيرة من القدرة على التهدئة، وليس لديه رؤى حقيقية، لكن لديه ترتيبات متعدّدة على كل المسارات، بما في ذلك مع إيران، وفي لبنان، ومع تركيا، ومع القيادة السورية الجديدة التي تحشد لنفسها أيّ شرعية متوفّرة مهما كانت على حساب الوطن السوري.
العقبة الفلسطينية برأيي أسهل بكثير من الحلقة الإسرائيلية، فالأمور تسير وفق خطة الإصلاحات نحو إحكام السيطرة على السلطة الوطنية في حياة الرئيس محمود عباس، وأغلب الظن أن الخطوة القادمة ستكون السيطرة الكاملة على الحكومة الفلسطينية، وإعادة تهميش منظمة التحرير الفلسطينية والقبول بالترتيبات التي سيقترحها ترامب.
الواقع العربي يريد ومصرّ على إدماج النظام السياسي الفلسطيني برمّته في لعبة هذه الترتيبات، وحركة «حماس» لن تقوى أبداً على رفض الترتيبات في ظلّ الواقع القائم.
باختصار هي عدّة شهور لإزالة العقبة الإسرائيلية، ولتطويع «العقبة» الفلسطينية، من أجل التهدئة التي يحتاجها ترامب.
فمن بإمكانه أن يقف في طريقه؟
ببساطة ليس لأحد مصلحة مباشرة بأن يقف أمامه، وهو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك، ومن محطّة الشرق الأوسط سينطلق قطار ترامب إلى محطّات جديدة.

Link: https://mail.alkofiya.info/post/269714