قبل أن أمضي إلى المشهد الثالث من حكاية أبو علي شاهين، لا بد أن أتوقف عند سمة نادرة ميزت شخصيته، قد تبدو لمن لم يعرفه عن قرب مجرد ملمح عابر، لكنها في الحقيقة كانت إحدى ركائز مبدئيته وصلابته. فقد كان يؤمن أن النضال الحقيقي لا يكون بالتطابق الفكري المطلق، بل بإدارة الخلاف واحترام التباين، وأن الصداقة الحقيقية تُختبر حين يشتد الخلاف لا حين يسود الاتفاق.
المشهد الثالث: ديمقراطي حتى النهاية، صلب في قناعاته، عاشق لمصر
لم يكن أبو علي شاهين مجرد قائد سياسي عابر، بل كان مدرسة في الانفتاح على الحوار، واحترام الخلاف، والدفاع عن قناعاته دون أن يسمح لها بأن تكون حاجزًا أمام العلاقات الإنسانية. كان ديمقراطيًا بامتياز، حتى عندما تصل الخلافات إلى حد التضاد الحاد، لكنه لم يكن يرى في ذلك سببًا للخصام، بل فرصة لتوسيع الأفق.
كثيرًا ما كنا نختلف في الرؤى السياسية، وأحيانًا تصل خلافاتنا إلى حد الجدل الحاد، لكنه لم يسمح لها يومًا بأن تمسّ علاقاتنا أو تقديره لشخصي. كان يرى أن النضال الحقيقي لا يكتمل إلا بإدارة التناقضات، لا بتحويلها إلى عداوات.
في إحدى المرات، نشب بيني وبينه خلاف حاد حول أحد قيادات حركة فتح، الذي كان يعدّه من أبنائه الروحيين، بينما كنت أرى فيه شخصية على ارتباط بالصهاينة. كان أبو علي يرفض هذا الطرح بشدة، معتبرًا أنني أتهم الرجل دون دليل قاطع. ورغم إصراري، لم يسمح للخلاف بأن يفسد الود بيننا.
حتى جاء يوم خميس، فوجئت فيه باتصال منه، يطلب مني أن أذهب لتناول الغداء في منزله قائلاً: "اليوم لديك طعام طيب لا يمكنك رفضه."
ذهبت إلى شقته في مدينة نصر، لأفاجأ بأن ذلك القيادي نفسه جالس في مواجهتي، ومعه آخرون. لم يكن من اللائق أن أتجاهله، فصافحته بتحفّظ. جلسنا حول المائدة، وكان أبو علي يدير الحديث بذكاء، يربط بيننا بأحاديث عن المشتركات، لا الخلافات. لم يسعَ لإلغاء موقفي، بل لإيقاف القطيعة.
حين خرجنا من اللقاء، التفت إليّ قائلاً:
"الخلاف لا يجب أن يصنع جدرانًا بيننا، بل أن يفتح نوافذ للحوار."
لم يُغير اللقاء قناعاتي، لكنه جعلني أوقف الهجوم العلني احترامًا له، وحرصًا على وحدة الصف، كما كان يحرص دائمًا.
المشهد الرابع: عشقه لمصر.. موقف لا تهزه التجارب
كان أبو علي شاهين عاشقًا لمصر بشكل استثنائي، لم يسمح لأحد أن يمسّها أمامه، حتى عندما مرت علاقته بها بتجربة الاعتقال بسبب تنفيذه عملية ضد الاحتلال في سيناء. رغم ذلك، لم يحمل ضغينة، بل كان يرى أن مصر كانت تدافع عن أمنها.
حدثني كثيرًا عن تلك التجربة، كيف اعتقلوه، وكيف تعامل معه ضباط الأمن المصريون. لم يكن يحمل حقدًا، بل كان يرى فيهم رجال دولة يقومون بواجبهم، ويقول:
"أي دولة تحمي أمنها. هذا حقها. المهم أن تظل مصر قوية، لأنها درعنا الأول."
حين اندلعت أحداث يناير 2011، كان يتابعها لحظة بلحظة من رام الله. لم يكن يمر يوم دون أن يتصل بي للاطمئنان على الأوضاع. كانت مكالماته تمتد لساعات، وفي بعضها يوصيني بأن أنقل لأصدقائي أهمية الحفاظ على استقرار مصر.
كان يقول لي:
"مصر ليست مجرد دولة. إنها ميزان هذه المنطقة. إذا اختلّت، انهار الجميع."
لم يكن يرى في ما يجري مجرد شأن داخلي، بل كان يعتبر مصر حجر الأساس في مستقبل الأمة كلها.
موقفه الحاسم من الإخوان المسلمين وحركة حماس
لم يكن خلافه مع الإخوان المسلمين تقليديًا، بل كان جذريًا ومبنيًا على دراسات ومعرفة عميقة بتاريخهم في فلسطين. كان من أوائل من كشفوا الدعم الصهيوني المبكر لهم، باعتبارهم أداة لضرب التيار الوطني واليساري الفلسطيني.
كان يحدثني مطولًا عن نشأتهم في غزة، وعن علاقتهم الغامضة مع الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، وكيف وظّف الاحتلال الجماعة لضرب حركة فتح والفصائل الوطنية.
حين تولى الإخوان السلطة في مصر، كان لديه مخاوف كبرى من تأثيرهم على الدولة الوطنية. كان يكرر دائمًا:
"يجب مقاومتهم بكل السبل الممكنة، لأنهم لا يؤمنون بفكرة الدولة، بل يسعون إلى إقامة كيان يتجاوز حدود الوطن، وهذا خطر وجودي على مصر والمنطقة."
لم يكتف بالتحذير شفويًا، بل كتب عشرات المقالات والدراسات التي تفضح مشروعهم، مؤمنًا بأن إسقاطه ضرورة لحماية الأمة.
وكان يرى أن خطرهم لا يقتصر على مصر وحدها، بل يمتد إلى فلسطين والمنطقة بأسرها.
المشهد الأخير: العودة إلى غزة.. حيث تنتهي الرحلة وتبدأ الخلود
مع تفاقم متاعبه الصحية عام 2013، سافر أبو علي شاهين إلى ألمانيا للعلاج، حيث تكفّلت جهة ما بكل مصاريفه، لكنه لم يرتح هناك. لم يرَ في المدن البعيدة إلا منفى قسريًا آخر، فعاد إلى مصر، ليكمل علاجه في مستشفى وادي النيل.
في تلك الفترة، كنت أعمل على تحقيق حول مجزرة الجنود المصريين في العريش، الذين قُتلوا غدرًا أثناء الإفطار. كان يتابع كل تفصيلة في التحقيق، يتألم ويغضب. كان يقول:
"الجيش المصري ليس مجرد جيش، إنه العمود الفقري للأمة.. ومصر ليست مجرد دولة، بل هي الجدار الذي يحمي الجميع."
ذات يوم، دخل عليه مدير عام مستشفى وادي النيل، وهو طبيب برتبة لواء، ليزوره شخصيًا. قال له:
"نحن فخورون بوجودك هنا لكونك قائد ومناضل فلسطيني...المستشفى يفتح أبوابه لكل أهلنا في فلسطين."
لمعت عينا أبو علي، ثم التفت إلى الشباب الفلسطينيين الذين كانوا معه، وكأنه يقول لهم:
""هذه هي مصر.. السند الذي لا يخذلكم.
حين تفاقم المرض، حاول الأطباء إقناعه بالبقاء، لكنه قال بصرامة:
"خلاص... أريد أن تصعد روحي في غزة، وأن أدفن في ترابها."
ورغم صعوبة وضعه الصحي، أصرّ على العودة إلى غزة. لم يكن القرار مجرد رغبة شخصية، بل وصية رجل عاش حياته بعناد الثائر، وأراد أن يرحل بذات العناد.
ما إن وصل إلى غزة، حتى توافد عليه الجميع من مختلف الأطياف. كان ممتنًا بشكل خاص لزيارة إسماعيل هنية، رغم الخلافات الفكرية والسياسية بينهما. لم يكن يحمل ضغينة، بل كان يؤمن أن فلسطين أكبر من الخلافات.
لكن المفارقة كانت في تقصير أبو مازن تجاهه. لم تتعامل السلطة الفلسطينية معه بما يليق بتاريخه. لم يكن ذلك مفاجئًا، لكنه كان إشارة أخرى على أن الثوار الحقيقيين غالبًا ما يُنسون عندما تذبل البنادق.
بعد أسبوعين من عودته، في 28 مايو 2013، رحل أبو علي شاهين في غزة، كما أراد.
لم يكن بالنسبة لي مجرد صديق رحل، بل كان آخر الحلقات النادرة لجيل لم يبدّل ولم يساوم. عاش بمبادئه حتى النفس الأخير، لم ينحنِ، لم يساوم، ولم يُغره شيء.
رحل أبو علي شاهين، لكنه لم يمت. بقيت قصصه، ومواقفه، وكلماته.
كان إنسانًا قبل أن يكون مناضلًا، وبوصلةً في زمن اختلطت فيه الاتجاهات.
***
في الحلقة القادمة من "وجوه عبر الزمن"، نواصل مع شخصية جديدة من أولئك الذين لم يتركوا للزمن أن يطوي سيرتهم، بل بقوا ماثلين في ذاكرة الشعوب وضميرها.