الكوفية:إنها حرب الصور تشتعل من جديد.. ارتفعت نبرة الغضب في مراكز صنع القرار الأوروبية تنديداً بتواصل حربَي الإبادة والتجويع على الشعب الفلسطيني المحاصر.
شاركت في تظاهرة الغضب دول أوروبية عديدة لم يعهد عنها اتخاذ مواقف على هذه الدرجة من الحدة ضد الدولة العبرية. تطرقت الاحتجاجات السياسية والدبلوماسية إلى فرض عقوبات اقتصادية لا تحتمل على إسرائيل بالنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي شريكها التجاري الأول، وضرورة مراجعة الشراكة الإستراتيجية معها لإخلالها الفادح بالبند الثاني، الذي ينص على ضرورة الالتزام بحقوق الإنسان، بالوقت نفسه بدأت دول أوروبية عديدة تتأهب للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
بدا مأزق الحكومة الإسرائيلية مستحكماً، ومصير رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو موضع تساؤل وشكّ. خسرت إسرائيل حرب الصور تماماً، وبدت منكشفة أخلاقياً وسياسياً، وارتفعت أصوات عديدة في الغرب تدعم إسرائيل ولا تناهضها، تقول: إن «نتنياهو» صار عبئاً على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وعلى الدولة العبرية نفسها.
بدأت تتناثر في الجو العام إشارات عن ضيق قطاعات واسعة من حركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» المؤيدة للرئيس دونالد ترامب بحرب لا أفق سياسياً لها، أو نهاية.
طرح على نطاق واسع سؤال إذا ما كان ممكناً أن يمضي نتنياهو في توسيع العمليات العسكرية، التي يطلق عليها «عربات جدعون» دون اكتراث بالمعارضات المتصاعدة في صفوف حلفائه التقليديين؟ بصياغة أخرى لنفس السؤال: هل اقتربت نهاية نتنياهو؟ في ذروة أزمته المستحكمة وجد طوق إنقاذ، مؤقتاً لكنه فعال، في حادث واشنطن.
تبدت أمامه فور إطلاق الرصاص على اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن فرصة سانحة ليتمركز أمام حلفائه وخصومه معاً كـ»ضحية» لمعاداة السامية، لا كـ»مجرم حرب» صدرت بحقه مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية. لم يتورع عن اتهام القادة الأوروبيين، الذين انتقدوا سياساته ومواقفه اللاإنسانية في غزة، بمسؤولية الاغتيال والتحريض على كل ما هو يهودي وإشاعة جو من الكراهية ضد إسرائيل! التهمة نفسها وجّهها لمعارضيه الإسرائيليين، كأن لحظة تصفية الحساب قد حانت.
لم يفلت رئيس حزب الديمقراطيين اليساري يائير غولان من تهجماته، مذكراً بما قاله قبل أيام بأن «إسرائيل في طريقها لتصبح دولة منبوذة بين الأمم على غرار جنوب إفريقيا سنوات الفصل العنصري».
كل من يعارضه هو معاد للسامية. بدوره حمَّله وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير مسؤولية حادث واشنطن، متهماً إياه بـ»الخيانة».
لماذا التركيز على غولان بالذات؟ لأنه أولاً رمز عسكري كلمته مسموعة في المؤسسة العسكرية، شغل سابقاً موقع نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وكاد يعيّن رئيساً للأركان، ولأنه ثانياً بدا الأكثر حسماً من بين القادة العسكريين السابقين في وصف حرب غزة بالفاشلة، قائلاً بالحرف: «إن الجنود يقتلون الأطفال الفلسطينيين كهواية»! لم يتوقف نتنياهو ومن معه لدقيقة واحدة للبحث في الأسباب الحقيقية لحادث واشنطن بعيداً عن نظرية «العداء للسامية»، التي يتم استدعاؤها بمناسبة أو دون مناسبة؛ لتسويغ أشد الجرائم توحشاً ضد الإنسانية، ما لم يجرؤ أحد على قوله، إنها مسؤولية السياسات العدوانية والإبادات الجماعية.
لم يكن الشاب الأميركي من أصل لاتيني إلياس رودريجز عربياً أو مسلماً، لكنه تأثر بمشاهد التقتيل والتجويع، التي تجري أمام الكاميرات في غزة، لا يوجد دليل واحد أن وراء الحادث عملاً منظماً.. كل ما هو متهم به أنه هتف: «الحرية لفلسطين». إنه حادث فردى، لكنه مرشح للتكرار في أماكن أخرى إذا ما استمرت آلة التقتيل الإسرائيلية بحصد الأرواح وإذلال البشر بالتجويع، كأنهم لا يستحقون الحياة.
حسب توقع وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، فإن «استهداف البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية سوف يستمر»، دون أن يعتذر هو عن إطلاق رصاص إسرائيلي على سفراء أوروبيين وعرب في مخيم جنين بالضفة الغربية قدموا إليه لمعاينة الأوضاع الإنسانية المزرية، التي بات عليها.
جرى استدعاء السفراء الإسرائيليين في عواصم عديدة لإبداء الاحتجاج على الجريمة المروّعة، التي تمثل خرقاً فاضحاً للقوانين والأعراف الدولية، من حيث المبدأ العام انتهاك حياة المدنيين جريمة حرب ضد الإنسانية، إلا أنه لا تصح المقارنة بين حادث اغتيال دوافعه فردية وبين حرب إبادة لشعب بأكمله حتى أن دولاً أوروبية أطلقت على إسرائيل «دولة الإبادة».
بعد حادث واشنطن، جرت تعبئة إعلامية وسياسية عكسية؛ بذريعة أنها تتعرض لموجة جديدة من العداء للسامية، تبارى القادة الغربيون في إدانة حادث الاغتيال بالعبارات نفسها، وأنه مدفوع بالعداء للسامية لا كردّة فعل لهمجية القوة وخرق كل القواعد القانونية والإنسانية.
جرت اتصالات بين نتنياهو وترامب، الذي وصف الحادث بـ»الفظيع»، متعهداً بالتصدي لمظاهر العداء للسامية وثقافة الكراهية. كان حادث واشنطن بتوقيته وسياقه داعياً للتساؤل عن مدى وحدود التوظيف السياسي، الذي قد يسعى إليه نتنياهو، لإعادة ترتيب أوراقه دون التراجع عن أولوياته في طلب ما يسميه «النصر المطلق» بعملية «عربات جدعون».
في لحظة استحكام الضغوط الأوروبية قال: «إن أصدقاءنا يؤيدوننا، لكنهم يتحفظون أن تحدث مأساة إنسانية»، أبدى استعداداً محدوداً لوقف نار مؤقت وإدخال بعض المساعدات الإنسانية، إثر حادث واشنطن من المتوقع أن يمضي قدماً في عملية «عربات جدعون» بذريعة أنها لازمة لأمن إسرائيل وشروطها لوقف إطلاق النار! إنه اختبار أخلاقي وسياسي جديد في حرب الصور والمصائر.