تمتد الأغوار الفلسطينية على طول الحافة الشرقية للضفة الغربية، وهي من أكثر المناطق خصوبة وأهمية استراتيجية في فلسطين. لطالما كانت سلة الغذاء الفلسطينية، ومتنفسًا طبيعيًا واقتصاديًا، ولكنها اليوم تتحوّل تدريجيًا إلى منطقة عسكرية مغلقة تُفرَغ من سكانها الأصليين تحت وطأة الاحتلال والاستيطان والعقاب الجماعي.
من شمال جنين إلى جنوب أريحا، تُحكم الأغوار اليوم بقبضة حديدية، عبر شبكة من الحواجز العسكرية، أبرزها حاجزي تياسير والحمرا، إلى جانب عمليات مصادرة الأراضي، وبناء البؤر الاستيطانية، والقيود اليومية على حركة السكان.
حواجز القمع والعزل مثل تياسير والحمرا نموذجًا حيث يشكّل حاجز تياسير مثالًا يوميًا على سياسات الإذلال الممنهج، حيث يُفتح فقط في فترتين قصيرتين من اليوم (4:00 – 8:00 صباحًا و12:00 – 6:00 مساءً)، ولا يُسمح بمرور أكثر من 20 مركبة في اليوم الواحد. يقف المزارعون والطلبة والمرضى في طوابير طويلة تحت الشمس الحارقة، فقط للوصول إلى أراضيهم أو مدارسهم أو منازلهم. أما حاجز الحمرا، الواقع عند مدخل الأغوار الشمالية، فهو من أكثر الحواجز قمعًا، حيث يُمنع الفلسطينيون من المرور بشكل تعسفي، بينما يُسمح للمستوطنين بالحركة بحرية تامة. هذا الحاجز لا يحمي أحدًا، بل يعزل الفلسطينيين عن أرضهم ويعزز واقع الأبرتهايد.
تشهد الأغوار الشمالية مؤخرًا تصعيدًا غير مسبوق من قِبل المستوطنين والجيش الإسرائيلي. من أبرز الممارسات: بناء بؤر استيطانية في مناطق المالح والمضارب البدوية، مما أدى إلى تهجير العائلات, إقامة بؤرة جديدة قرب قرية بردلة، ترافقها اعتداءات يومية على السكان, تشديد الحصار على كردلة، ومنع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم, الاستيلاء على أراضي "الدير" في عين البيضاء، وتحويل ينابيعها إلى منتزهات سياحية للمستوطنين, مصادرة مضخات المياه وأنظمة الطاقة الشمسية، والاعتداء المباشر على المزارعين.
ما يحدث في الأغوار لا يمكن فصله عن المشروع الكولونيالي الاستيطاني الأوسع الذي تتبناه إسرائيل مترافقا مع هدف التهجير، والذي يهدف إلى مصادرة الأرض الفلسطينية، وتفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية للسكان الأصليين، وفرض سيطرة كاملة على الموارد والمجال الجغرافي. هذا المشروع لم يكن يومًا عشوائيًا، بل هو مخطط استراتيجي يتدرج في التنفيذ من خلال بناء المستوطنات، وشق الطرق الالتفافية، وفرض أوامر عسكرية لمصادرة الأراضي، ومنع الفلسطينيين من البناء والتوسع الطبيعي.
الاستيطان في الأغوار ليس "توسعًا سكانيًا"، بل أداة استعمارية تهدف إلى تغيير طابع الأرض وخلق واقع لا رجعة فيه، تمهيدًا لضم المنطقة فعليًا إلى إسرائيل دون إعلان رسمي، وبما يتعارض كليًا مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
مدينة أريحا، التي يعود تاريخها إلى أكثر من عشرة آلاف عام، أصبحت اليوم محاصرة من الجهات الأربع. تُغلق مداخلها بشكل متكرر، وتُقيَّد حركة سكانها وزوارها، في انتهاك فاضح للقانون الدولي ومبادئ الكرامة الإنسانية.
ما يجري في الأغوار ليس عنفًا عابرًا ولا إجراءات أمنية، بل مشروع إحلالي منظم تُنفّذه حكومة يمينية متطرفة، تؤمن أن الأرض دون سكان فلسطينيين هي الطريق لتوسيع الاستيطان وفرض السيادة الإسرائيلية.
الأغوار ليست مجرد أرض زراعية، بل ساحة مواجهة مع مشروع استعماري استيطاني يهدف إلى تفريغ الأرض من شعبها، ومحو الرواية الفلسطينية، وفرض واقع الأبرتهايد بالقوة.
إن الدفاع عن الأغوار اليوم، هو دفاع عن الحق الفلسطيني في الأرض والسيادة والكرامة، وهو واجب وطني وأخلاقي ومجتمعي لا يحتمل التأجيل.