- مراسلنا: انتشال جثامين 5 شهداء بعد غارة إسرائيلية على شارع النخيل بحي التفاح شرقي مدنية غزة
أعلنت محكمة العدل الدولية، الأسبوع الماضي، أنها ستبدأ في نهاية الشهر الجاري عقد جلسات استماع علنية بشأن التزامات إسرائيل بوجود الأمم المتحدة ووكالاتها، بما فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا»، في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأعربت ٤٠ دولة وأربع منظمات إقليمية ودولية، منها الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي ومنظمة الدول الإسلامية، عن نيتها المشاركة بالمرافعات الشفوية أمام المحكمة. وكانت الجمعية العامة قد اعتمدت في ١٩ من شهر كانون الأول الماضي قراراً يطلب من المحكمة رأياً استشارياً يتعلق بالتزامات إسرائيل فيما يتعلق بوجود أنشطة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة. جاءت تلك المبادرة وهذه الدعوة في أعقاب مصادقة البرلمان الإسرائيلي «الكنيست» على قانونين يمنعان الأونروا من ممارسة أنشطتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لا يعد ذلك النوع من التحرك من قبل المحكمة الأول من نوعه فيما يتعلق بفلسطين، فقد أصدرت المحكمة في نهاية شهر تموز من العام الماضي رأياً استشارياً سابقاً، أكدت فيه أن استمرار وجود إسرائيل على الأرض الفلسطينية المحتلة «غير قانوني»، وأن المنظمات الدولية، ودول العالم ملزمة بعدم الاعتراف بالوضع الناشئ عن الاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية. ويُعدّ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الصادر في ١٩ تموز ٢٠٢٤، بشأن «الآثار القانونية للسياسات والممارسات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية»، أحد أهم القرارات القانونية في تاريخ القضية الفلسطينية. لا يقتصر هذا الرأي على تحديد الطبيعة القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل يُقدّم أيضًا تحليلًا قانونيًا شاملًا للعواقب الناجمة عن ممارسات إسرائيل المستمرة في هذه الأراضي.
قبل ذلك أصدرت المحكمة أيضاً رأياً استشارياً آخر صدر قبل أكثر من عقدين حول عدم شرعية جدار الفصل العنصري الذي بنته سلطات الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي عزل ١٠ في المائة من أراضي الضفة الغربية عن امتدادها الجغرافي والبشري والسياسي. أكدت المحكمة في ذلك القرار أيضاً أنه يجب على الدول عدم الاعتراف بالوضع الناشئ عن بناء الجدار، والامتناع عن دعم أفعال إسرائيل، والعمل على وضع حد لهذه الانتهاكات. كما أكدت المحكمة على مسؤولية الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان الالتزام بالاتفاقية، نظرًا لأن بناء الجدار يمثل انتهاكًا خطيرًا لأحكامها.
ومن المتوقع أيضاً أن يظهر رأي استشاري ثالث يتعلق بالقضية الفلسطينية، حول نشاط الأونروا وعمل المنظمات الدولية الأخرى في الأراضي المحتلة. وتستمد الأونروا شرعيتها من قرارات الجمعية العامة ذات الصلة، بدءاً بالقرار ١٩٤، باعتبارها هيئة فرعية، نشأت وفق المادة ٢٢ من ميثاق الأمم المتحدة. ويرتبط استمرار الأونروا والتجديد المتواصل لبقاء عملها بعدم حل القضية الفلسطينية بعد، حيث إن استمرار وجودها يرتبط بذلك الشرط. منذ توقيع أوسلو، تسعى إسرائيل دون مواربة لإنهاء وجود الأونروا، بالتزامن مع محاولاتها لتصفية القضية الفلسطينية، مستخدمة العديد من الطرق؛ كالضغط على الحلفاء لخفض تمويلهم الموجه للأونروا؛ وشيطنة الأونروا لحشد مزيد من الضغط الدولي لعرقلة استمرارها؛ والتشكيك بالوضع القانوني للاجئ الفلسطيني، الذي ارتبط بتطبيق القرار ١٩٤، ومحاولاتها لإقرانه بتعريف اللاجئ وفق المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة؛ وأخيراً محاولاتها لتحويل مهام الأونروا لمؤسسات دولية أخرى، لا تعمل تحت المظلة السياسية والقانونية لقرار الجمعية العامة ١٩٤، الذي ينادي بعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم.
تأسست الأونروا كمنظمة تعنى بالشأن الإنساني، تحت غطاء سياسي، يتعلق بتنفيذ القرار ١٩٤ الذي يدعو لحل قضية اللاجئين بالعودة والتعويض، وفق اعتبارات الإنصاف والقانون. وعملياً ركزت الأمم المتحدة على الجانب الإنساني، ودعمت عمل الأونروا ونشاطاتها، في حين اكتفت سياسياً بالتذكير بالقرار ١٩٤، دون اتخاذ اي مسار دبلوماسي سياسي أو قانوني لإنصاف الفلسطينيين، بالتوازي مع عمل الأونروا الإنساني، الأمر الذي يفسر بقاء الأونروا حتى الآن، بعد أكثر من ٧٠ عاماً، دون وجود أفق لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين. ورغم أن الأونروا جاءت في البداية لدمج الفلسطينيين في البلدان المضيفة، الا أن مقاومة الفلسطينيين لذلك، ورفض الدول المضيفة التجاوب مع أهداف الأونروا، قوض ذلك الهدف. وشكلت طبيعة تمويل الأونروا أداة لإضعافها، فتمويل الأونروا طوعي، أي أنه غير ملزم، ويأتي من الدول الراغبة في المساهمة بالتمويل، الأمر الذي يسمح بتأثره بالاعتبارات واالتوجهات السياسية للممولين، سواء في تقليص نسبة التمويل أو جعل التمويل مشروطاً بشروط الممولين. وبدأ التمويل بالانكماش تدريجياً بعد توقيع أوسلو، وتصاعدت الشكاوى بقصور الموارد، وانخفاض مستوى وكم الخدمات المقدمة من الوكالة، نتيجة لتأثر التمويل بالاعتبارات السياسية. ويعد التفويض الزمني للأونروا، حيث الوكالة مؤقتة، يجري التجديد لها دورياً كل ثلاث سنوات، معضلةً أخرى تواجه استمرارها في حال تصاعدت الاتهامات، وتبلورت البدائل، وتوقف التمويل.
إن الهدف الإسرائيلي من وراء تصفية الأونروا هو اغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين. ورغم العقبات التي تواجه الأونروا، سواءً على مستوى القدرة على تأدية وظائفها تجاه اللاجئين الفلسطينيين خصوصا في الأراضي المحتلة، أو على مستوى ثغرات التفويض المؤقت، الذي يحتاج لتجديد دوري، أو في ظل تقليص مستوى التمويل الطوعي، فتعتمد ميزانية ومشاريع الأونروا على وجود سيولة مالية كافية للتشغيل، إلا أن بقاء واستمرار الأونروا في ممارسة مهامها يعد ضرورة للحفاظ على الوضع السياسي والقانوني للاجئ الفلسطيني، طالما أن حل القضية الفلسطينية لا يلوح في الافق بعد. ويجب العمل على توسيع الولاية الوظيفية للأونروا، كي تستطيع بلورة رؤى وأهداف للوصول للحلول الدائمة لقضية اللاجئين الفلسطينيين، في ظل غياب عمل لجنة التوفيق، وتخصيص موازنة ثابتة للأونروا من الامم المتحدة، تماماً كمفوضية اللاجئين، لحين الانتهاء من مهامها، أو أن تصبح بيد الدول العربية، لعدم ترك موازنتها رهينة للأهواء السياسية، التي تحكم الدول المانحة. ورغم أهمية دور بقاء الأونروا في الأرضي الفلسطينية المحتلة، وهو الأمر الذي يعني وجوب مقاومة القرار الإسرائيلي في الضفة وغزة، إلا أن بقاء الأونروا أيضا في الدول المضيفة يعد أمراً جوهرياً.
يتمتع الرأي الاستشاري للمحكمة بمكانة قانونية مهمة، خصوصاً وأنه يصدر وفق معطيات نظرت من خلال قواعد القانون الدولي، رغم أنه غير مُلزِم بطبيعته. ورغم أن محكمة العدل الدولية أهم سلطة قضائيّة واستشارية في العالم، وتقدّم تفسيراتٍ مرجعية للقانون الدولي ومبادئه، الا أن عدم امتلاك المحكمة سلطة تنفيذية، إلا إذا اقترن قرارها باصدار قرار عن مجلس الأمن وفق الفصل السابع، الذي يسمح باستخدام القوة القسرية، يجعل تنفيذ العدالة منوطاً بالاعتبارات السياسية، التي تحسمها مصالح القوى العظمى الخمس في مجلس الأمن. إلا أن قرارات المحكمة في قضية فلسطين أشارت صراحة، في ظل عجر مجلس الأمن والأمم المتحدة عن أداء دورها، إلى دور المجتمع الدولي ودول العالم في عدم الاعتراف بما تقدم عليه إسرائيل من انتهاك لقواعد القانون والعدالة، ودورها في منع إسرائيل من اقتراف مزيد من الانتهاكات. وقد تكون قضية فلسطين، بكل ما تحمله من آلام وظلم، البوصلة التي توجه دول العالم الحر اليوم لتحقيق العدالة والحق، ليس للفلسطينيين فقط، بل لمواجهة مؤامرات أكبر، باتت إرهاصاتها جلية اليوم.