في الأزمات الكبرى، تتكشّف معادن الرجال، وتبرز الشخصيات التي تجمع بين الحنكة السياسية والحسّ الإنساني. ومن بين تلك الشخصيات التي فرضت حضورها في المشهد الفلسطيني خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، يبرز اسم محمد دحلان، الذي استطاع – رغم تعقيدات الواقع الفلسطيني وتشابك المواقف الإقليمية – أن يقدّم نموذجًا مختلفًا في إدارة الأزمات واستحضار البعد الإنساني في الفعل السياسي.
منذ اندلاع الحرب، كان واضحًا أنّ دحلان اختار أن يقف في مربع الواجب الوطني، متجاوزًا حسابات الخلاف السياسي والاصطفاف الفصائلي، فاتجه نحو ما يمكن تسميته بـ"الدبلوماسية الإغاثية"، موظفًا علاقاته الواسعة وقدرته على التواصل مع العواصم العربية والدولية، لجلب الدعم والمساعدات إلى قطاع غزة المنكوب. فالمشهد الذي أفرزته الحرب لم يكن بحاجة إلى بيانات أو خطابات بقدر حاجته إلى مبادرات عملية تنقذ الناس من الجوع والتشريد والمرض، وهو ما أدركه مبكرًا واشتغل عليه بصمتٍ وفاعلية.
لقد كان لدحلان حضوره في أكثر من ميدان: سياسي وإنساني وإعلامي. فمن جهةٍ، أدار شبكة اتصالات معقّدة لتأمين خطوط المساعدات عبر دولة الإمارات العربية المتحدة، التي رعت حملات "الفارس الشهم 3" ووفّرت الجسور الجوية والإمدادات الطبية والإغاثية لآلاف العائلات المتضررة. ومن جهةٍ أخرى، أطلق من خلال التيار الإصلاحي الديمقراطي الذي يقوده حركةً ميدانية نشطة داخل القطاع، حيث انتشرت كوادره في كلّ محافظة لتوزيع المساعدات وتنظيم مراكز الإيواء، وإدارة عمليات الدعم النفسي والاجتماعي للنازحين.
يبدو من متابعة تحركات دحلان وتصريحاته أن الرجل يتعامل مع الواقع الفلسطيني ببراغماتيةٍ مسؤولة، تستند إلى فهمٍ عميقٍ لطبيعة التحولات الإقليمية وموازين القوى، دون أن يتخلى عن انتمائه الوطني أو عن حلمه القديم في أن يرى غزة تنهض من تحت الركام. فقد أدرك أنّ السياسة في لحظات الحرب يجب أن تنحاز إلى الإنسان، وأنّ الفعل الإغاثي – وإن بدا إنسانيًا صرفًا – يحمل في جوهره رسالة سياسية تقول إنّ الفلسطينيين قادرون على إدارة أزماتهم بكرامة واستقلالية.
من خلال هذا الأداء، أرسل دحلان إشاراتٍ واضحة بأنّ خلافه مع خصومه السياسيين لا يعني خصومة مع غزة أو مع أهلها، بل إنّ علاقته بالقطاع ما زالت محكومة بروح المسؤولية والانتماء. ولذلك، جاءت تحركاته الإغاثية لتُعيد بعض الدفء إلى العلاقة بينه وبين شريحةٍ واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني الذين رأوا فيه رجلًا يفهم السياسة بلغة المصلحة الوطنية لا بلغة الشعارات.
كما أنّ طريقة دحلان في إدارة حملات الإغاثة كشفت عن مهارةٍ تنظيمية عالية وقدرة على تعبئة الموارد بسرعة، وهو ما جعل «الفارس الشهم 3» تتحول إلى علامة فارقة في المشهد الإنساني للحرب، لما حملته من انضباطٍ وتكافل وفعالية. وبذلك، أثبت الرجل أنّه يمتلك شبكة علاقاتٍ عربيةٍ ودوليةٍ يمكن استثمارها لخدمة قضيته وشعبه بعيدًا عن التجاذبات.
لقد قدّم دحلان في هذه الحرب درسًا في أنّ الزعامة ليست دائمًا في صدارة المنابر أو على شاشات الفضائيات، بل في الميدان حيث الناس وأوجاعهم. فحين غابت مؤسسات كثيرة عن المشهد، كان هو ورفاقه في الميدان، يمدّون الجسور ويصنعون الفارق. وربما كان ذلك ما أعاد إليه بعضًا من الحضور الشعبي الذي فقده في سنواتٍ سابقة، حين طغت السياسة على كلّ ما هو إنساني في المشهد الفلسطيني.
في المحصلة، يمكن القول إنّ تجربة محمد دحلان خلال حرب الإبادة على غزة شكّلت لحظة اختبارٍ إنساني وسياسي له ولتياره. فقد نجح في أن يُعيد تعريف دوره داخل المعادلة الوطنية، وأن يقدّم نموذجًا لسياسيٍّ فلسطينيٍّ يفهم أنّ خدمة الإنسان هي أسمى مراتب السياسة. ومع أنّ الحرب لم تنتهِ بعد، إلا أنّ التاريخ سيسجّل أنّ دحلان كان حاضرًا في واحدةٍ من أحلك لحظات غزة، عاملًا لا متفرّجًا، ومبادرًا لا منتظرًا، مؤمنًا بأنّ السياسة في معناها الأصيل هي أن تكون مع الناس حين يطاردهم الموت والجوع والحصار. وقديمًا قالوا:
ليس الفارسُ من يلوذُ بالنصرِ في رخاءٍ،
لكن من يقفُ مع قومهِ حين تشتدُّ المحنُ