توابع زلزال نيويورك
نشر بتاريخ: 2025/11/10 (آخر تحديث: 2025/11/10 الساعة: 16:16)

ما وقع في عاصمة المال والأعمال، ومقرّ الأمم المتحدة، والعاصمة الصّاخبة التي تتمتّع بأكبر قدر من التنوّع العرقي، يشكّل زلزالاً، على درجة متقدّمة من القوة، ليس للولايات المتحدة الأميركية، وإنما ستظهر ارتداداته العميقة في أكثر من مدينة، خصوصاً في الدول الغربية.

الزلزال الذي أحدثه فوز المسلم، هندي الجذور، زهران ممداني، الذي يعلن أنه «ديمقراطي اشتراكي»، يشكّل الزلزال الرديف، وربما المساوي في القوة للزلزال الذي أحدثته غزّة منذ «طوفان الأقصى».

ربما تغفل بعض الأصوات والأقلام الفلسطينية والعربية المتشائمة آثار ونتائج ذلك الزلزال، أو ربما تقلّل من خطورته وأهمّيته وأبعاده لكن الإسرائيليين كانوا أكثر إحساساً بتأثيره، خصوصاً أنه يحدد بوصلة الوضع في أميركا، الحليف الأكبر والدائم لدولة الاحتلال، ومن ثم على الأخيرة نفسها.

سيذهب المبرّرون لتشاؤمهم إلى تحليل أسباب ذلك الزلزال، بما تعيشه أميركا في عصر «الملك» دونالد ترامب، وتأثيرات سياساته على المهاجرين، والفقراء، والفئات الوسطى، ومتلقّي الدعم من البرامج الأميركية المعتادة، وكلهم تضرّروا جرّاء تلك السياسات، وتجاهل آثار ونتائج السياسات الأميركية الإسرائيلية على قطاع غزّة.

ممداني، من الحزب الديمقراطي، كان جريئاً وواضحاً في مواقفه، المناهضة للإبادة الجماعية التي ترتكبها الدولة العبرية في القطاع، ومناهضاً لسياسة الإدارة الأميركية الداعمة والشريكة لدولة الاحتلال، حتى أعلن، أنه في حال انتخابه سيقوم باعتقال بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» إذا تواجد في نيويورك.

كان ذلك قبل انتخابه، وخلال حملته الإعلانية، ما حفّز اللوبي الصهيوني، وأصحاب المليارات، والإدارة الأميركية لتجنيد كل ما يمكن تجنيده لمنع وصوله إلى مقعد عمدة نيويورك.

يتحدّى ممداني، ترامب علناً وصراحة، وكأنه ضامن لتحقيق الفوز غير آبه بالتهديدات الصريحة والمبطّنة، التي تعرض لها من جهات نافذة في السياسة الأميركية، وداعمي دولة الاحتلال فيها.

فوز ممداني يشكّل أكثر من ورطة، وضوء كاشف، للحصار المرّ الذي جلبته دولة الاحتلال لنفسها خلال حربها العدوانية المجنونة على القطاع، ذلك أن 32% من يهود المدينة، قد صوّتوا لصالح ممداني، ما يعني أن مواقف يهود العالم، أخذت تتبرّأ من سياسة الاحتلال الإسرائيلي.

في تغريدة عميحاي شتاين على صفحته بالعبرية، يقول: «إن 46% من ناخبي ممداني، قالوا إن قضية إسرائيل حاسمة في قرارهم بشأن من سيصوّتون له، وكذلك 47% من ناخبي منافسه أندرو كومو».

تشير هذه النسبة إلى التحوّلات الواسعة التي أحدثتها غزّة، وحرب الإبادة ليس على الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه زهران وحسب وإنّما، أيضاً، وبصورة أكبر على ناخبي وقاعدة الحزب الجمهوري الذي دعم المرشّح الخاسر كومو.

ترامب، صاحب الأنا المتضخّمة، أرجع سبب فوز ممداني، إلى غياب اسمه عن ورقة الاقتراع والإغلاق الحكومي، مع أنه لم يدّخر جهداً في محاولة الإطاحة بتفاؤل الأخير.

ومع أن فوز ممداني بمقعد عمدة نيويورك تزامن مع فوز مرشّحتين «ديمقراطيتين» بمنصبي حاكمتي ولايتي نيوجيرسي وفرجينيا، وبفوارق مهمة عن المنافسين، إلّا أن هذا الفوز لهما يذهب في اتجاه مؤشّرات، تقدم «الديمقراطي» على «الجمهوري» عموماً، ومن غير المستبعد أن يكون لغزّة أثر في ذلك، مع أن المرشّحتين لم تُفصحا عن مواقفهما بوضوح كما فعل ممداني.

ترامب توعّد ممداني، وسكّان نيويورك، باتخاذ عقوبات من ضمنها قطع التمويل الفيدرالي عن المدينة، غير أن الأمر سيتعدّى ذلك، خصوصاً أن ثمة تسريبات تتحدّث عن خطط لإفشال ممداني والإطاحة به.

المغرّدون الإسرائيليون لم يتأخّروا في الإعلان عن «الحداد» في ذلك اليوم الذي اعتبروه أسود في تاريخ المدينة وأميركا. قال بعضهم: «سيقود إحدى أكبر وأهمّ مدن العالم شخص خطير، ومتطرّف وداعم للإرهاب، وأن هذا يرمز إلى اتجاه سيئ تتجّه إليه أميركا».

آخرون غرّدوا، بأن سكان نيويورك، قرّروا أن يسخروا من أنفسهم، وسيكون من المثير أن نرى إلى أي اتجاه ستأخذهم هذه الخطوة، بعد أن كانت طوال 150 عاماً، ملاذاً لليهود آمناً وموطناً لأكبر جالية يهودية في العالم.

يتنبّأ البعض بأن المدينة ستشهد تفككاً تدريجياً، ما سيدفع اليهود إلى الهجرة.

الردّ على ذلك، جاء عبر الصوت اليهودي، وهي منظمة تُعرّف نفسها بأنها اليهود المتحدون ضد الصهيونية والدولة العبرية، والتي رحّبت بفوز ممداني، وأصدرت بياناً حمل أطيب الأمنيات وأجمل التهاني له وأعربت عن دعمها وتعاونها تحت قيادته، من أجل خدمة المجتمع اليهودي وجميع سكّان نيويورك.

منذ قيامها حاولت الحركة الصهيونية، واتبعت كل السبل والوسائل، لإقناع يهود العالم، خصوصاً يهود أميركا، بالانتقال إلى دولة «السمن والعسل»، لكنهم امتنعوا، لأنها دولة حروب ولغياب الأمن والاستقرار.

وفي المقابل تكشف تقارير إسرائيلية مؤخّراً، عن ما تسمّيه «تسونامي الهجرة المعاكسة»، ومضاعفة نسب وأعداد المهاجرين من دولة الاحتلال، بالتأكيد ستكون مهمّة ممداني صعبة، وقد يتعرّض للاغتيال، أو أقلّه المضايقات، والحصار، لكنه ألقى بحجر كبير في حوض السباحة الفاخر، وقدّم فوزه مؤشّراً قوياً وراسخاً على الانقلاب الجاري والقادم في «الديمقراطي»، وعلى التحوّلات العميقة التي تنتظر أميركا، خلال السنوات القليلة المقبلة، بما في ذلك تأثيراتها على دولة الاحتلال.

من الجدير هنا أن نذكر تصريح ترامب الذي قال فيه، ما معناه: «إن من كان ينتقد الدولة العبرية، كان يخرج من السياسة وإن الحال قد تغيّر إلى عكسه تماماً».