هل «حماس» تمثّل المقاومة؟ هل خدمتها ومشت بها خطوات إلى الأمام، أم أضرتها ولكمتها بالضربة القاضية؟ لنتابع..
بمجرد أن بدأت «حماس» تمارس المقاومة المسلحة في مستهل تسعينيات القرن الماضي، تفجرت إشكاليات عديدة على الفور، أولها: أدى اختزالها مفهوم المقاومة بالكفاح المسلح إلى استبعاد بل وازدراء كافة أشكال المقاومة الأُخرى، وأهمها المقاومة الشعبية والمدنية، وبالتالي استبعاد قوة الجماهير والحيلولة دون مشاركتهم الفعلية في المقاومة، مع التأكيد أن «حماس» ليست الوحيدة المسؤولة عن إهمال وإضعاف المقاومة الشعبية والمدنية.
العمليات العسكرية لا يقوم بها أفراد الشعب العاديون من الناس المدنيين، بل تؤديها مجموعات صغيرة جداً، والجمهور يتحول إلى متابع ومشجع (وأحياناً متضرر)، فمثلاً في الانتفاضة الثانية رفعت «حماس» سقف الانخراط في المقاومة إلى درجة مستحيلة (العمليات الانتحارية)، وفي هبَّة القدس 2021، التي انتقلت إلى الضفة الغربية وانتشرت في مدن وبلدات الداخل وكادت تتحول إلى انتفاضة شعبية شاملة، دخلت «حماس» على الخط بصواريخها فوأدت الانتفاضة في مهدها وحوّلت المواجهة إلى حرب صاروخية. تماماً كما فعلت في العام 2014. وفي حرب الإبادة غابت تماماً مشاهد مشاركة النسوة والكهول والأطفال في المقاومة، كما شاهدناها طوال العقود الماضية مقرونة بصور الإباء والكرامة والاستبسال، وبدلاً من ذلك العنفوان تحوّل دورهم إلى مجرد محاولات النجاة، والنزوح المتكرر، والبحث عن كيس طحين، أو خيمة.. في مشاهد بائسة وحزينة، هذا لم يعنِ فقط استبعادهم من ميدان المواجهة، بل خلق حالات احتقان وغضب ومشاعر انكسار وخوف وإحباط، وظهور النزعات البدائية، لدرجة أن فكرة المقاومة والتضحية بحد ذاتها صارت مستهجنة ومرفوضة.. هذا كله بعيداً عن الصورة المثالية التي يُراد منها تضخيم مقولات الصمود والفداء والبطولة، التي أخذت منحى تضليلياً دعائياً يتناقض مع الواقع؛ لأن المقاومة ودور الجماهير في حالة المقاومة المدنية والانتفاضات الشعبية يختلف جذرياً عنها في حالة الحرب، خاصة عندما تكون شديدة القسوة والعنف.
ثانياً: بمجرد هيمنتها على قطاع غزة زعمت «حماس» أنها النموذج الصحيح والوحيد للمقاومة، وعمدت إلى القضاء على كافة فصائل المقاومة والكتائب المسلحة، بحجة توحيد السلاح، وضبط الأمن، وأبقت على «الجهاد الإسلامي» لأنه تحت الحماية الإيرانية. حتى أن الزهار وصف الصواريخ التي تطلقها جهات أخرى غير «حماس» بالصواريخ الخيانية. وعندنا شنّت هجومها الأخير لم تستشر ولم تنسق مع أي طرف.
ثالثاً: اتسم أسلوبها في ممارستها للمقاومة بالعنف، الذي لا يميز بين العسكريين والمدنيين، كما جرى في العمليات التفجيرية «الانتحارية»، وإطلاق الصواريخ غير الموجهة بدقة، وخطف الأسرى المدنيين.. قد يعترض البعض بقوله: إن كل الإسرائيليين أهداف مشروعة، لأنه مجتمع عسكري ولا يوجد شيء اسمه مدنيون.. في وثيقة «حماس» التي أصدرتها في الشهر الثالث من بداية الحرب، استخدمت مصطلح «المدنيين الإسرائيليين» 10 مرات، وأكدت الوثيقة أن الحركة «تتجنب استهداف المدنيين».. كما أنَّ التأكيد على وجود «مدنيين إسرائيليين» تكرر مراراً على لسان قادة الحركة، إلا أن ذلك لم يترسخ كثقافة وممارسة لدى معظم قياديي وكوادر ومنتسبي «حماس»، الذين ينكرون وجود مدنيين في إسرائيل، ويرون الإسرائيليين كتلة صماء، الأمر الذي يفيد إسرائيل إعلامياً، ويغذي عصبيتها وعنصريتها التي تتأسس على التوحد في مواجهة الخطر الخارجي. إضافة إلى أن استهداف المدنيين أضر كثيراً بسمعة النضال الفلسطيني، وأتاح لإسرائيل وإعلامها وسمه بالإرهاب.
رابعاً: في جولات تصعيدها للعمليات المسلحة، كان واضحاً أن الهدف الحقيقي من ورائها هو إفشال مشروع التسوية. البداية أتت بالتزامن مع انطلاق عملية السلام في مؤتمر مدريد حيث شهدت الموجة الأولى من سلسلة عمليات انتحارية، والموجة الثانية قبيل مقتل رابين وبدء تنفيذ المرحلة الثانية من أوسلو، والغريب أن تلك العمليات توقفت كلياً بمجرد وصول نتنياهو للحكم، فيما يبدو تناغماً وتحالفاً غير مباشر مع اليمين الصهيوني، والالتقاء على الهدف ذاته.. والأغرب أن الجولات التالية ظهرت مجدداً إبان الانتفاضة الثانية، بالذات كلما ظهرت مؤشرات قرب التوصل إلى حل سياسي، أو بالتزامن مع وصول أي مبعوث أميركي أو دولي.. والأشد غرابة أن العمليات الانتحارية توقفت كلياً قبيل اغتيال أحمد ياسين، فهل أدركت «حماس» متأخرة مدى الضرر الذي جلبته تلك العمليات، أم أنها استنفدت أغراضها؟
الأسلوب الثالث في المقاومة تمثل في إعلان الحرب، أي المبادأة ومحاولة توجيه الضربة القاضية لإسرائيل، وهو أسلوب لا يتفق مع نهج «حماس» السابق، ولا مع نهج المقاومة الفلسطينية عبر قرن من الزمان، ولا يتفق مع نهج الحرب الشعبية التي مورست عالمياً. وهو فوق قدرة وطاقة الشعب الفلسطيني.
جاءت هجمات السابع من أكتوبر، ومحاولات التصدي للعدوان بمثابة ذروة الكفاح المسلح ضد إسرائيل، أي أقصى ما يمكن الوصول إليه من إعداد وتسليح وتدريب وضخ إعلامي. مع أن الكفاح المسلح مورس من قبل كافة الفصائل والتنظيمات الفلسطينية منذ عقود طويلة، لكن التجربة المكلفة والقاسية أوصلت إلى نتيجة مفادها ضرورة التحول إلى أشكال أخرى من المقاومة، بعدما وصل هذا النهج نهايته المسدودة منذ زمن بعيد، واستحالة نجاحه في تحقيق هدف تحرير فلسطين.
في المقابل، يعني أن الحد الأقصى في استخدام القوة إسرائيلياً وصل إلى نهايته.
ولأن التنظيمات الفلسطينية لا تقيّم تجاربها، ولا تأخذ العبر من التاريخ، ويعتقد كل فصيل أنه من يجسّد المقاومة، وأنه بدأها وعليه احتكارها، بل وعليه تجريب حظه بها، وعلى حساب الشعب وضد مصالحه وضد مستقبله.. بسبب ذلك قدّمت «حماس» الذريعة لإسرائيل لأن تدمر القطاع، وأن تهدم مدينة تاريخية اسمها غزة، وبالتالي هدر تجربة مائة عام من النضال الفلسطيني، في سبيل إعادة اختراع العجلة.
ومع اعتمادها أسلوب شن الحرب، بدأت تطالب بوقفها منذ اليوم الثاني، واعتبرت أن مجرد إيقافها سيكون نصراً تاريخياً.. فطالما أن الحرب الطريق الصحيح لنيل الحرية والتحرر، فلماذا نوقفها؟ وها هي الحركة تطالب بهدنة 10 - 15 سنة، السؤال ماذا ستفعل أثناء الهدنة؟ هل ستوقف المقاومة؟ وماذا ستفعل بعد انتهائها؟ هل ستعاود الحرب؟
ما حصل فعلياً أن «حماس» وضعت فكرة المقاومة في مأزق سنحتاج سنوات حتى نستطيع الانفكاك منه.. فعندما حوّلت المقاومة إلى أيديولوجية دينية، وصارت هدفاً بحد ذاته وبأسلوب عدمي، دمرت المجتمع الذي أتت لإنقاذه، وحولت حياة الإنسان الذي أتت لصون كرامته إلى جحيم.