ما زالت تداعيات الصدمة من فعل إسرائيل المجنون في الدوحة تسيطر على العالم المندهش من هذا المستوى من الوقاحة، حد استمرار التهديد بمعاودة الضربة طالما تواجد أي من قيادة حركة حماس في قطر. فالجريمة وحدها ومستوى الغدر الذي قامت به كان كفيلاً بوضع رأسها في التراب خزياً. ولكن فوق ذلك تستمر بتهديد دولة تُعتبر صديقة وتقوم بدور الوساطة التي تحتاجها إسرائيل للإفراج عن أسراها وهي خدمة كبيرة لم يكن من الممكن أن تحصل عليها إسرائيل.
قالت قطر إن وجود قيادة حركة حماس في الدوحة جاء بطلب أميركي إسرائيلي، فأي عقل مختل هذا الذي يضرب الحد الأدنى من معايير العلاقات بين الدول واتفاقياتها؟ كيف تقوم دولة بهذا الفعل متجاوزة استقلال الدول وسيادتها وتستبيح أراضيها بهذا الشكل؟ ليس سوى لأنها دولة فوق القانون يدعمها رئيس فوق القانون ودولة انتهكت سيادات وفضاءات ما لا يمكن إحصاؤه، فالولايات المتحدة الدولة تتربع على عرش استباحات الدول وقتل أبنائها.
لا يمكن أن تتم العملية بدون موافقة الرئيس الأميركي فـ «حماس» تناقش مبادرته الشخصية، فلو فعلها نتنياهو خلسةً هذا يعني ضربة مباشرة لجهود ترامب، وتلك لا يقدر عليها نتنياهو، لكن الحقيقة أن الرئيس الأميركي هو من أعطى الضوء الأخضر، وهو من اتصل بعدها بأمير قطر ليعبر عن إدانته الشديدة للعملية. وتلك وحدها تصلح نموذجاً لمعرفة كيف يتعاملون معنا نحن العرب، حتى ندرك موقعَنا ومكانتنا وصورتنا بعيونهم، قبل أن نغدق عليهم الاتفاقيات وأكياس حُسن النوايا والبراءة التي تغلّف علاقاتنا السياسية معهم، لكنها تختفي حين يتعلق الأمر بين العرب أنفسهم، أما كم نساوي عندهم؟ مجرد أناس سذج يسهل خداعهم، فصورة العربي التي جسّدتها هوليود في سبعينات القرن الثري الذي يحمل كيس المال ويوزعه بغباء باحثاً عن الفتيات هي التي يراها الأميركي والغربي.
هل تكفي تلك لمراجعة العلاقة مع الولايات المتحدة، أم نبتلع كذب الرئيس الذي لا يخجل من وصفه بالكاذب ونخدع أنفسنا لأن لا حول لنا ولا قوة؟ فقد عقدت الدوحة منتصف تسعينات القرن الماضي اتفاقية مع واشنطن أفضت لإقامة أكبر قاعدة خارج الولايات المتحدة، بهدف حماية الدولة التي لا تستطيع حماية نفسها كما قال وزير خارجيتها مهندس الاتفاقية آنذاك حمد بن جاسم، وكم أضرت تلك القاعدة بالعراق وبغزة وبأفغانستان وسورية ولبنان وايران وليبيا واليمن، حيث كان ينقل منها السلاح لإسرائيل وتقلع منها الطائرات لضرب الدول، ولكنها لم تحمِ سيادة الدولة القطرية وهيبتها.
كل ما حققه نتنياهو من انتصارات كبرى في الإقليم لم ترفع من أسهمه في الاستطلاعات ما يصيبه بالسعار، فيضرب يميناً ويساراً في تونس ولبنان وسورية واليمن وغزة وفي الدوحة في كل الاتجاهات، ومع عدم الثقة باستقرار الحكومة يزداد السعار خوفاً من الانتخابات بتلك النتائج المستطلعة، ويزيدها تهمة قطر غيت التي تسببت بفصل رئيس الشاباك وتحقق فيها الشرطة، تأتي ضربة الدوحة لتضرب كل عصافير أرادها نتنياهو بحجر واحد ضرب قيادة حماس، وتلك ورقة مهمة لكن الأهم غسل عار تلقّي مكتبه للأموال وعدم استخدامها في أي دعاية انتخابية للمنافسين، وكل ذلك على حساب كرامة وهيبة قطر.
لقد كانت الضربة خارج التوقعات لأن نتنياهو ما زال يحتاج قيادة حماس بالدوحة للتفاوض لاستعادة الأسرى، لذا عارضتها معظم الدوائر الأمنية والجيش، لكن نتنياهو باتت حساباته خارج كل الحسابات، مستنداً للرئيس الأميركي خارج كل التوقعات، فهما باتا متشابهَين وسكارى بخمر القوة وخارج التوقعات، لأن الضربة في الدوحة الصديق والحليف الذي لم يتعارض مع المصالح الأميركية والإسرائيلية في العقود الاخيرة، بل في لحظة من اللحظات تم اتهامها بالتسهيل لمصالح تلك الدول.
ليس هناك وصف للحالة التي تعيشها القيادة الإسرائيلية أوضح من تلك التي كتبتها صحيفة معاريف «حالة غرور وهستيريا تحيط برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومساعديه وعدد من الوزراء في حزب الليكود، قد تدفع بهم إلى افتعال معارك جديدة بالمنطقة تحت وَهَم أنهم أسياد المنطقة وإعادة تشكيلها مجدداً». فضرب قطر هو التعبير عن الشعور بالانتصار التاريخي والحق في إعادة هندسة المنطقة بما يتلاءم مع الرغبة الإسرائيلية، فالقوة والنصر يصيبان بالنشوة والغرور، لكن عندما لا يترجم هذا الانتصار لأسهم في عالم الاستثمار السياسي في الداخل تزداد ردود الفعل عنفاً.
ما حدث للدوحة نموذج إدراكي لموازين القوى في المنطقة ودول المركز والأطراف، فمن الصعب تصوّر أن يستسهل نتنياهو فعلها في القاهرة، وتلك ضرورة لمعرفة أن الأمن القومي العربي لا يحميه سوى العرب، ومن سعى لإضعاف مصر في السنوات الأخيرة لصالح تصدّر دول الهامش التي لا تملك مقومات حماية نفسها، ليس فقط شراء السلاح بل القوة البشرية المقاتلة، بات من الضروري إعادة مراجعة هذا المسار. فالحماية الأميركية هي حماية انتقائية وفي لحظة ما تكشف ظهر أقرب الأصدقاء، وقد فعلتها على امتداد التاريخ وقطر نموذج.