غوغل والجوع
نشر بتاريخ: 2025/09/07 (آخر تحديث: 2025/09/07 الساعة: 23:05)

في زمن تتحول فيه التكنولوجيا إلى أداة قادرة على صناعة الرأي العام العالمي، وتتسابق الحكومات لاستخدامها كذراع دعائي لا يقل خطورة عن السلاح، تتكشف حقائق صادمة عن الدور الذي تلعبه كبرى الشركات الرقمية في حروب هذا العصر. فبينما كان قطاع غزة يتلوّى من الجوع، ويئن من حصار خانق قطع عنه الغذاء والدواء والوقود منذ مارس الماضي، أبرمت شركة غوغل عقداً مع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقيمة 45 مليون دولار، غايته تلميع صورة الحكومة الإسرائيلية والتصدي لخطاب "المجاعة" الذي يلاحقها في وسائل الإعلام العالمية وتقارير المنظمات الإنسانية. العقد الذي وُصف في وثائقه بأن غوغل "كيان يعمل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي سواء في الظروف العادية أو في حالات الطوارئ"، لم يكن مجرد اتفاق تجاري لتوفير خدمات تقنية أو دعائية، بل تحوّل إلى تحالف سياسي وإعلامي يضع الشركة في قلب ماكينة التبرير التي تسعى إسرائيل عبرها إلى إنكار واقع لا يمكن إنكاره: موت الأطفال جوعاً تحت أنقاض قطاع محاصر.

ما يثير القلق في هذه الصفقة ليس قيمتها المالية الضخمة، بل توقيتها وسياقها. ففي اللحظة نفسها التي كانت فيها الشوارع العالمية تموج بمسيرات احتجاجية ترفع شعارات "أوقفوا تجويع غزة" و"الخبز حق لا سلاح"، كانت غوغل تفتح مساحات إعلانية مدفوعة لتسويق السردية الإسرائيلية، وتغمر شبكات البحث ويوتيوب ومنصاتها المختلفة برسائل دعائية تُنكر الأزمة أو تحاول تحريفها. فجأة، بدا وكأن الشركة التي يتجه إليها الملايين بحثاً عن الحقيقة تحولت إلى حارس على أبواب الدعاية الرسمية، يلمّع صورة المحتل، ويشكك في شهادات الأطباء الميدانيين، ويضع تقارير الأمم المتحدة والصليب الأحمر في خانة "المبالغات السياسية". هذه ليست مجرد ممارسة دعائية عابرة، بل جريمة موازية: جريمة تحويل معاناة بشرية إلى مادة قابلة للإنكار أو التسويق.

لقد عرف العالم أن الحروب الحديثة لا تُخاض فقط بالدبابات والطائرات، بل أيضاً بالصورة والكلمة والبيانات الرقمية. لكن ما تكشفه هذه الصفقة هو أن شركات التكنولوجيا، التي طالما ادعت الحياد ورفعت شعارات "عدم الانحياز" و"خدمة الجميع"، لم تعد تقف في المنتصف. فهي حين تُسلّح طرفاً ما بالرواية وتمنحه قدرة خارقة على السيطرة على الوعي الجماعي، تصبح طرفاً مباشراً في الصراع. غوغل لم تكتفِ بتوفير أدوات دعائية لإسرائيل، بل اختارت أن تنخرط في لحظة فارقة، حيث أصبح الجوع في غزة عنواناً للإبادة الصامتة.

إنه مشهد بالغ التناقض: بينما تنتشر صور الأطفال الهزيلين، بعيون غائرة وأضلاع بارزة تشهد على مجاعة حقيقية، كانت الإعلانات الممولة عبر غوغل تحاول إقناع العالم بأن لا جوع هناك، وبأن الأزمة مفتعلة أو مبالغ فيها، وبأن من يُحرمون من الغذاء والدواء والوقود هم "ضحايا قياداتهم" لا ضحايا الحصار. هذه السردية ليست فقط خيانة للحقيقة، بل محاولة ممنهجة لقتل الضحية مرتين: مرة بالجوع، ومرة بتشويه روايته.

الأكثر خطورة أن العقد ينص على علاقة "دائمة" مع مكتب نتنياهو، سواء في الظروف العادية أو الطارئة، وهو ما يرفع غوغل من مستوى الشريك التجاري إلى مستوى الحليف السياسي. هنا تكمن الأسئلة الكبرى: كيف يمكن لشركة تدّعي العالمية والحياد أن تتحول إلى طرف منحاز في واحدة من أبشع المآسي الإنسانية المعاصرة؟ وكيف يمكن أن تثق الشعوب بمؤسسة تتلاعب بالمعلومات لتلميع صورة حكومة متهمة بارتكاب جرائم حرب؟

لقد شهد التاريخ المعاصر أشكالاً عديدة من الدعاية الرسمية، لكن ما يجري اليوم عبر الشركات الرقمية يختلف جذرياً. ففي الماضي، كانت الحكومات تملك صحفاً أو محطات إذاعية تبث رسائلها. أما اليوم، فإن تحالفها مع شركات التكنولوجيا يمنحها قدرة على الوصول إلى كل هاتف محمول، وكل شاشة، وكل عملية بحث يقوم بها أي مستخدم في أي مكان. هذا النفوذ الكوني هو ما يجعل صفقة غوغل مع إسرائيل خطيرة إلى هذا الحد. فهي ليست دعاية محلية، بل دعاية عابرة للقارات، تُخاطب وعي البشرية جمعاء، وتعمل على قلب الحقائق في لحظة مفصلية.

إن الحرب على غزة باتت تملك وجهين متوازيين: حرب التجويع والقصف والدمار التي تدور فوق الأرض، وحرب الوعي التي تُخاض عبر المنصات الرقمية. الأولى تقتل الأجساد، والثانية تقتل الحقيقة. وإذا كان الفلسطيني في غزة يقاتل للبقاء على قيد الحياة وسط الحرمان من لقمة الخبز وجرعة الدواء، فإن الرواية التي تصوغها غوغل لحساب إسرائيل تهدف إلى قتل صرخته في مهدها، حتى لا تصل إلى ضمير العالم.

في النهاية، تكشف هذه القضية أن شركات التكنولوجيا الكبرى لم تعد كيانات بريئة أو أدوات محايدة، بل لاعبين سياسيين يتدخلون في الحروب ويصوغون السرديات ويحددون من هو الضحية ومن هو الجلاد. ومع صفقة الـ45 مليون دولار، أصبحت غوغل شريكاً معلناً في تبييض سياسات التجويع والإبادة الصامتة. إنها لحظة اختبار للوعي العالمي: هل نقبل أن تتحول أدوات البحث والمعرفة إلى جدار عازل يخفي الحقيقة، أم ندرك أن معركة الحرية لا تُخاض فقط في شوارع غزة، بل أيضاً في فضاءات الإنترنت التي تحاول الشركات احتكارها وتوجيهها؟

الجوع في غزة لم يعد مجرد مأساة محلية، بل صار فضيحة كونية. وفضيحة أخرى أن تُسخّر شركة بحجم غوغل ملايينها لتلميع صورة الجريمة بدلاً من كشفها، ولتسويق الأكاذيب بدلاً من مواجهة الحقيقة. هنا، يصبح الصمت مشاركة، والتواطؤ جريمة، والدعاية سلاحاً لا يقل فتكاً من الحصار نفسه.