الحرب تضع حداً لثلاثين عاماً مضت
نشر بتاريخ: 2025/08/22 (آخر تحديث: 2025/08/22 الساعة: 14:25)

بالمقارنة مع الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، تبدو الحرب الحالية مختلفة تماما، ليس في قسوتها، ولا في طول مدتها وحسب، ولكن وهذا هو الأهم في أهدافها البعيدة، والتي تحاول أن تضع حدا لأكثر من ثلاثين عاما مضت، وإذا كانت الحروب الإسرائيلية السابقة التي شنها اليمين الإسرائيلي وهو في الحكم على قطاع غزة المحكوم من قبل حماس، كانت لتحقيق أهداف تكتيكية، لتقليم أظافر حماس، والإبقاء في نفس الوقت عليها حاكمة للقطاع، للإبقاء على الانقسام الفلسطيني الداخلي، فإن هذه الحرب لا تكتفي بإخراج حماس من قطاع غزة وحسب، بل تهدف إلى إخراج كل الشعب الفلسطيني منه، أي تهجيره تماما، ذلك أن اليمين الإسرائيلي، كما ذكرنا أكثر من مرة، لا يكتفي بدولة إسرائيل المعلنة العام 1948، رغم أنها تجاوزت بحدودها قرار التقسيم، لكنه يسعى لإقامة إسرائيل الكبرى.

وإسرائيل الكبرى، تتطلب أولا ضم كل أرض فلسطين التاريخية، أي إلغاء قرار التقسيم عمليا، ليس ذلك وحسب، بل ومنع قيام دولة فلسطين، حتى على حدود 1967، وهي الدولة المعترف بها دوليا كعضو مراقب في الأمم المتحدة، والتي تتوالى اعترافات الدول بها، حتى تجاوز العدد عدد من يعترفون بدولة إسرائيل نفسها، وإسرائيل اليمينية المتطرفة بذلك صارت عدوا للمجتمع الدولي، فهي بالسعي لقيام إسرائيل الكبرى، تقوم بتجاوز قرارات الأمم المتحدة كلها، ثم هي تضرب عرض الحائط بكل الدول التي تعترف بدولة فلسطين، وأبعد من ذلك، تصبح عدوا مباشرا لنحو سبع دول عربية محيطة بفلسطين التاريخية، ذلك أن حدود الجغرافيا السياسية لإسرائيل الكبرى تعني أجزاء من أراضي سورية ولبنان ومصر والعراق والسعودية، وربما كل الأردن، ثم بذلك تصبح إسرائيل خطرا على كل الشرق الأوسط، لأن الهدف من مثل هذه الدولة هو أن تصبح الدولة الإقليمية الأعظم.

ومن ثم تصبح خطرا على كل العالم، بما فيه العالم الغربي، الذي أنشأها في منطقة مهمة بالنسبة له أكثر من غيره، وذلك بسبب حاجة الغرب الأوروبي بشكل خاص للوقود، أي النفط والغاز الذي يحتاجه الغرب الصناعي من جهة، ومن جهة ثانية العالم الذي يختص بالطقس البارد خاصة في فصل الشتاء، يضاف إلى كل ذلك، كون الشرق الأوسط يتوسط العالم القديم، ويتحكم بطرق التجارة العالمية، خاصة الطريق البحري الذي يربط الشرق بالغرب، عبر مضائق هرمز وباب المندب وقناة السويس، وهذا ما يفسر انقلاب الموقف الأوروبي، الذي تفهم في بداية الحرب الرد الإسرائيلي الغاضب على السابع من أكتوبر 2023، لكنه انقلب بعد ذلك حين تأكد تماما من أن أهداف الحرب الإسرائيلية، المباشرة هي تهجير الفلسطينيين وضم أرض الدولة الفلسطينية في غزة والضفة، والبعيدة وهي إقامة إسرائيل الكبرى.

وليس أدل على ذلك من شن إسرائيل الحرب على عدة جبهات، رغم أن تلك الجبهات فتحت بدافع إسناد غزة، لكن إسرائيل ربطت فيما بينها، لتحقيق الهدف العسكري بعيد المدى من الحرب، وهو تدمير كل القوة المناهضة لمشروعها التوسعي، والذي يتطلع إلى ضم كل أرض دولة فلسطين صراحة، وإلى ضم ما أمكن من أراضي الغير، وهذا واضح حاليا في سورية ولبنان، ثم السيطرة على الإقليم كله، وقد أفصح بنيامين نتنياهو الذي يقود هذا المسار منذ ثلاثين عاما، عن هدف الحرب بوضوح، وهو هدف يبرر ما تدفعه إسرائيل من ثمن باهظ، على صعيد تماسكها الداخلي، وما خسرته من قتلى، وانهيار مكانتها الدولية، بما لم يحدث لأي دولة من قبل، باستثناء دولة نظام الفصل العنصري، جنوب إفريقيا عشية سقوط ذلك النظام.

وكما كان حال نظام الفصل العنصري في آخر أيامه، حين لم يبقَ من أحد في العالم يصطف إلى جانبه سوى بريطانيا، راعية ذلك النظام، لم يبقَ من أحد إلى جانب إسرائيل سوى دونالد ترامب وإدارته، وربما أغلبية حزبه الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض وفي الكونغرس، وليس الحزب الديمقراطي بأغلبيته وحسب هو من يعارض استمرار حرب نتنياهو من أجل تحقيق أهداف إسرائيل الكبرى، بل إن أغلبية الأميركيين وفق آخر استطلاع رأي أجراه معهد ابسوس ووكالة رويترز وبنسبه تقارب 60 % يعتقدون أنه يجب الاعتراف بدولة فلسطين، وأن الحرب الإسرائيلية باتت مفرطة.

واستمرار الحرب، لم يعد بالنسبة لنتنياهو لتحقيق هدف البقاء في الحكم، ذلك أن العام القادم أصلا هو عام الانتخابات الدورية، لكن استمرار الحرب بالوتيرة التي هي عليها منذ آذار الماضي، أي فرض الحصار المطبق بمنع إدخال المساعدات بما أدى للمجاعة التي أثارت الدنيا كلها، وبارتكاب المجازر اليومية بمعدل 50 - 100 شهيد يوميا مع 200 - 500 جريح، ومواصلة تدمير كل مظاهر الحياة، حيث لم يكتفِ الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، بحجة اختباء عناصر حماس فيها، أو في الأنفاق تحتها، بل تدمير المنازل بشكل كامل وتام، وهو يحاول في المقطع الأخير من الحرب، أي ما يسميه اليوم عربات جدعون 2، أن يدمر كل منازل مدينة غزة والمنطقة الوسطى، تماما كما فعل في بيت حانون وجباليا ورفح وخان يونس، ولا يبقى سوى الخيام، وهي عبارة عن «قاعات ترانزيت»، فالقتل اليومي المتواصل، والتدمير التام، ثم الدفع بالمليون الأخير من السكان للحشر مع المليون الأول في مواصي خان يونس حيث الخيام فقط، يعني بكل بساطة ضم شمال القطاع ميدانيا، وإجبار الغزيين على الهجرة بدعوى أنها هجرة طوعية، وهي قسرية بعد القتل وتدمير كل مظاهر الحياة في كل القطاع.

إن درجة المغامرة الإسرائيلية، خاصة بعد إخراج حزب الله من ساحة القتال، وضرب البرنامج النووي الإيراني، ورغم الغموض حول مدى الضرر الذي لحق بالحزب والبرنامج النووي، إلا أن ما يعلنه ترامب والإسرائيليون، ويتبجحون به، يؤكد أنهما قد حققا الهدف العسكري للحرب، وهو منع الخطر الوجودي عن إسرائيل، من جهة إنتاج قنبلة نووية إيرانية، أو إحاطتها بحزام ناري، كذلك حجم الدمار في غزة، وحجم تدمير قوة حماس العسكرية لا يخفيان على أحد، ولهذا فمواصلة نتنياهو للحرب بادعاء انه يريد الحاق الهزيمة بحماس، ما هو إلا حجة واهية لاستمرار الحرب، لأن الهدف هو تدمير غزة تماما، وقتل أكبر عدد ممكن، وقد تحقق حتى الآن قتل وجرح أكثر من خمس السكان، وكل مواطن في غزة خسر منزله، وليس فقط عامين دراسيين لكل أطفاله، والخسائر التي لحقت بكل الناس لا تعد ولا تحصى.

لم يعد الأمر يندرج في خانة التقديرات والتخمينات، فبعد صمت جبهات لبنان وإيران وسورية والعراق والضفة، وذلك منذ حزيران الماضي، ورغم أن المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف قد عرض مقترحا لصفقة جزئية، كان عبارة عن مقترح إسرائيلي أصلا، وافق عليه نتنياهو مجرد عرضه، وكان يصر على الصفقة الجزئية حتى لا يوقف الحرب، في حين عرضت حماس صفقة شاملة، ودخلت في تفاوض على الصفقة، ومجرد أن طالبت بتعديلات، أوقف نتنياهو التفاوض بسحب وفده من الدوحة، واليوم وبعد أن وافقت حماس على الصفقة، عاد نتنياهو ليقول بصفقة شاملة، لا تكون نتاج تفاوض، بل بشروطه كما يقول، أي باستسلام ليس مطلوبا من حماس فقط، بل من فلسطين والشرق الأوسط، وباتت اللحظة فارقة تماما، بين إرادة دولية تقول بحل الدولتين، أي بدولة فلسطينية مستقلة، وبين قوة إسرائيلية مسنودة أميركيا لإعلان إسرائيل الكبرى.

المهم أن فترة ثلاثين عاما من المراوحة بين الحل السياسي وعرقلته ومن ثم إغلاق الطريق أمامه من قبل اليمين الإسرائيلي بقيادة نتنياهو، قد انتهت والآن نحن أمام لحظة، إما تتحقق فيها الإرادة الدولية والإقليمية المساندة للحل الفلسطيني في قيام دولته على أرضه، أو يتحقق فيها الهدف الاستعماري اليميني الإسرائيلي بقيام إسرائيل الكبرى، ولعل ما صدر أخيرا بعيدا عن أعين الإعلام في كل من الأردن ومصر، ما يؤكد استعداد الدولتين المجاورتين لإسرائيل والمرتبطتين معها بمعاهدتي سلام، للحظة مواجهة المغامرة العسكرية الإسرائيلية، التي بمجرد نزع سلاح حماس، ولو وقعت على كل وثائق ومعاهدات الدنيا، فإنها لن تتوقف، بل لن تخرج من قطاع غزة، ونتنياهو واضح بذلك حين حدد شروطه لإنهاء الحرب، بالسيطرة الأمنية واستمرار الحصار على غزة، ومنع السلطة من إدارتها لمنع قيام الدولة الفلسطينية، لأنه يعلم أن غزة تفتح دولة فلسطين على العالم الخارجي، لأنها في الضفة فقط لا يمكنها أن تتجاوز حدود «اندورا» بين إسرائيل والأردن، لكل هذا وفي مواجهة اللحظة التالية بدأ الأردن بالعودة لقانون التجنيد، وباتت مصر لا تقول إنها لا توافق على التهجير، بل ستمنعه، وبين هذه السطور الكثير مما هو أبعد من الإدانة والرفض.