غزة… من حصار الدم إلى مشروع “التفريغ الذكي”: الاحتلال الجديد بلا جنود ولا أعلام
نشر بتاريخ: 2025/08/10 (آخر تحديث: 2025/08/10 الساعة: 08:24)

ما يحدث في غزة اليوم ليس احتلالًا تقليديًا بالمعنى الذي عرفه التاريخ، بل هو عملية إعادة صياغة جغرافيا وبنية وديموغرافيا المكان، خطة طويلة المدى تسير بهدوء تحت ضجيج الحرب، وتستبدل صورة الاحتلال بالدبابة والجندي بصورة أبرد وأخطر، هي “التفريغ” الممنهج، حيث لا تبحث إسرائيل عن رفع علمها فوق غزة بل عن إفراغها من أهلها وتسليمها كأرض بلا شعب لشركات استثمارية عالمية، تحت إدارة أمريكية وإسرائيلية مباشرة، مع طمس كل معالمها الفلسطينية، فالهدف يتجاوز الأمن إلى اقتصاد المستقبل، حيث تصبح غزة بعد التهجير الكلي منطقة استثمارية “ذكية” تديرها شركات تكنولوجيا وأمن وطاقة متعددة الجنسيات، وتتحول من رمز للمقاومة إلى منصة اقتصادية عالمية بطابع أمريكي إسرائيلي، والمخطط يقوم على إزالة البعد السكاني والسياسي، وتحويل الأرض إلى نموذج عالمي لمدينة تقنية محصنة، تُسوق على أنها إنجاز حضاري بينما هي في جوهرها مقبرة الهوية الفلسطينية، وفي قلب هذه اللعبة يقف نتنياهو الذي يدير العملية بأدوات عسكرية وسياسية وإعلامية متكاملة، بينما ينشغل الرأي العام في نقاشات “الاحتلال أو لا احتلال”، وهو يدرك أن غزة لا تحتاج لاحتلال مباشر طالما أنه قادر على تفريغها خطوة خطوة، وعندما يكتمل المشهد ستُسلم غزة إلى إدارة أمريكية جاهزة، ليست عربية ولا فلسطينية، بل مشروع شرق أوسطي أوروبي أمريكي متعدد الجنسيات، أما الحديث عن إعادة الإعمار أو حق العودة فهو في هذا السياق وهم سياسي لتجميل الوجه الاستعماري الجديد، وحينها ستكون المقاومة قد صُفيت سياسيًا وعسكريًا، وقيادات حماس التي اختُزل وجودها في غزة ستصبح ذكرى إعلامية، ومعها يسقط الدور القطري الذي لم يكن سوى قناة تنفيذ للإرادة الأمريكية الإسرائيلية تحت ستار الدعم، فيما تدخل السلطة الفلسطينية مرحلة الاحتضار النهائي، بنهاية اتفاق أوسلو ورحيل محمود عباس ومنظومته، لتبقى الضفة الغربية تحت قبضة إسرائيلية كاملة بإدارة اقتصادية يقودها رجال أعمال مزدوجو الجنسية، وهذا التحول يقضي على آخر أوهام الدولة الفلسطينية المستقلة، أما المؤتمرات الدولية التي قد تُعقد لإعلان “الدولة” فهي ليست إلا مسرحية شرعنة لكيان هش بلا سيادة، يضمن استمرار السيطرة الإسرائيلية الأمريكية، ولمن يعتقد أن هذا السيناريو جديد، فإن التاريخ يقدم شواهد دامغة على أن “التفريغ” أداة استعمارية قديمة، فقد سبقت إسرائيل إلى ذلك بريطانيا في فلسطين قبل 1948 حين شجعت الهجرة اليهودية المكثفة وعملت على تهجير القرى العربية عبر المجازر النفسية والميدانية، وكذلك فعلت فرنسا في الجزائر بسياسة “الأرض المحروقة” التي أفرغت مناطق كاملة من سكانها لتأمين مشاريعها الزراعية والعسكرية، بل إن خطة نتنياهو اليوم تتقاطع مع وثائق إسرائيلية قديمة أبرزها “خطة يينون” في الثمانينات التي دعت لإعادة تشكيل المنطقة ديموغرافيًا لصالح السيطرة الإسرائيلية، كما أن تسريبات استخبارية حديثة – ومنها وثائق مسربة من مراكز أبحاث أمريكية – تحدثت بوضوح عن “غزة الجديدة” التي ستكون نموذجًا لتصدير فكرة المدينة الذكية المؤمنة إلى مناطق نزاع أخرى في الشرق الأوسط، وهو ما يفسر الاهتمام المفرط لشركات التكنولوجيا الأمنية الإسرائيلية والأمريكية بالحصول على عقود البنية التحتية المستقبلية هناك، وبذلك تتحول غزة إلى مختبر حي لاحتلال بلا جنود، احتلال يمحو البشر ويحتفظ بالأرض ليعيد تشكيلها وفق مصالح رأس المال والنفوذ، والمؤشرات الميدانية التي نشهدها اليوم تدل على أن خطة “التفريغ” قد بدأت بالفعل، فالمناطق الشمالية التي كانت مأهولة أصبحت شبه خالية، والممرات الآمنة التي تروج لها إسرائيل ليست سوى طرق تهجير قسري نحو الجنوب أو خارج القطاع، مع استمرار القصف المتعمد للمناطق التي تستقبل النازحين لخلق حالة رعب دائم تدفعهم لمغادرة غزة نهائيًا، إضافة إلى استهداف البنية التحتية الأساسية من مياه وكهرباء ومستشفيات، وهو ما يخلق بيئة غير قابلة للعيش، بينما تُفتح قنوات خلفية عبر وسطاء دوليين لترتيب خروج جماعي “طوعي” نحو مصر أو دول أخرى، وكل ذلك يجري تحت غطاء إعلامي يتحدث عن “عمليات أمنية مؤقتة” أو “مناطق عازلة”، في حين أن النتيجة النهائية هي تقليص عدد سكان غزة إلى الحد الذي يسمح ببدء مشروع الإحلال الاقتصادي الذكي دون مقاومة شعبية حقيقية، وهنا تتجسد أخطر أشكال الاحتلال في القرن الحادي والعشرين: احتلال بلا علم ولا جندي، لكنه يسرق الأرض والهوية والذاكرة دفعة واحدة.