غزة والضفة تخوضان حرباً وجودية، بدأت منذ عقود، إلا أن الأراضي الفلسطينية تعيش في الوقت الحالي أصعب وأخطر مراحل تلك الحرب، فهل بدأ الاحتلال ببلورة مرحلة الحسم؟ لم يكن من الصعب، بعد مرور عقود على احتلال إسرائيل الضفة وغزة معرفة أهدافها ومخططاتها تجاه الفلسطينيين وأراضيهم، إلا أن الحماية الغربية لإسرائيل، والضغط المتواصل على الدول العربية، والضعف الفلسطيني الطبيعي في ظل غياب الحماية والدعم الحقيقي، حالت دون تقويض تلك المخططات الإسرائيلية، الأمر الذي سمح للاحتلال بمواصلة انتهاكاته لحقوق الفلسطينيين المشروعة. واليوم، وبعد مرور ما يقرب من العامين على حرب غزة، دمرت خلالها إسرائيل قطاعاً بأكمله يحتضن خمس مدن بقراها ومخيماتها، سقط خلالها عشرات الآلاف من الفلسطينيين وجرح وشرّد ويتّم وهجّر مئات آلاف المواطنين، يتعمد أيضاً التصعيد في الضفة الغربية، ضمن مخططات مختلفة، وضعت وطورت خلال السنوات الماضية، على الرغم من أن الضفة الغربية تعتبر فلسطينياً منطقة منزوعة السلاح، ويخضع الفلسطينيون فيها لتتبع ورقابة محكمة من قبل سلطة احتلال عسكري. تشير تطورات الأحداث في الضفة وغزة إلى أن الفلسطينيين أمام أيام صعبة.
تخرج تصريحات ترامب بقرب عقد صفقة في غزة، أو بالتهديد بضرورة الخروج بصفقة، مدعياً أن إسرائيل قبلت بشروطها، رغم أنها لم تلبِّ شرط حركة «حماس» بضرورة التعهد بوقف الحرب والانسحاب من غزة. إن ما يهم ترامب من هذه التحركات في غزة هو تحقيق الانتصار بإخراج أكبر عدد من المحتجزين من غزة، فبالتأكيد أن حياة الفلسطينيين لا تهمه، في ظل عدم انتباهه لنهر الدماء الجارف من غزة، وآلية المساعدات التي احتكرتها الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي جعلت حصول الفلسطينيين على غذائهم في حدوده الدنيا مغمساً بالدم. لم تخف إسرائيل رؤيتها لغزة في نهاية الحرب، كبلد مدمَّر، لن يبدأ إعماره إلا بعد هزيمة «حماس»، وبأموال عربية، وخضوعه أمنياً لإسرائيل تماماً كما في الضفة الغربية، وتقليص حدوده، وتوفير هجرة طوعية لسكانه. ولكن هل يشبه ذلك مخططاتها للضفة الغربية؟
في الضفة باتت إستراتيجية الاحتلال واضحة، فما بين إجراءات سلطات الاحتلال في الأراضي المحتلة، وتصعيد هجمات المستوطنين ضد السكان الآمنين، والادعاء أن تلك الهجمات تتخطى سلطة الاحتلال، لتجنّب تبعات الأحداث القادمة رسمياً على المستوى الدولي، يبدو أنه بدأ العد التنازلي لكشف الاحتلال عن مرحلة جديدة من مراحل هذا الصراع الدامي قد اقترب.
إن إقرار سلطات الاحتلال نهجاً أمنياً وإستراتيجياً جديداً في الضفة، منذ بداية العام الجاري، يحمل في طياته تغيراً جوهرياً. قام الاحتلال بتعزيز الوجود العسكري داخل مناطق A وB المكتظة بالسكان الفلسطينيين، بعد الإعلان عن عملية الجدار الحديدي ضد مخيمات شمال الضفة، وامتد ذلك النهج بعد ذلك إلى باقي مناطق الضفة. وقد يكون أهم ما ميز تلك السياسة، تهجير الفلسطينيين عن بيوتهم ومخيماتهم، صحيح أن تلك السياسة ليست جديدة، فلطالما تسببت هجمات المستوطنين بتهجير آلاف الفلسطينيين، خصوصاً البدو من مناطقهم، إلا أن السياسة الرسمية الجديدة للاحتلال والتي استهدفت عشرات آلاف الفلسطينيين، تكشف عن سياسة تهجير خطيرة في الضفة الغربية. كما اعتمدت حكومة الاحتلال فرض قيود خانقة على حركة المواطنين، بتقطيع أوصال الضفة الغربية، من خلال مئات البوابات والحواجز. وشهدت الأيام الـ ١٢ لحرب إسرائيل على إيران تطبيقاً عملياً لإحكام قطع أوصال الضفة، ليكون ذلك مفعلاً وقت الحاجة. تغلق إسرائيل رسمياً مرحلة الاستيطان الزاحف، وتنتقل لمرحلة جديدة بعد إعلانها في أيار الماضي عن بناء وشرعنه ٢٢ مستوطنة وبؤرة استيطانية مرة واحدة، في تحرك يعد قياسياً، ولم يحدث من قبل. كما يأتي ذلك في ظل سياسات عديدة تهدف لإضعاف مكانة السلطة السياسية وتقليص صلاحياتها المدنية وقدراتها المالية، لتحويلها إلى مجرد سلطة ترعى الأمور الحياتية اليومية فقط للسكان الفلسطينيين، دون حتى أي وظائف سياسية.
ورغم أن هجمات المستوطنين على الفلسطينيين ليست جديدة، فلطالما شكلت هاجساً للسكان، خصوصاً في ظل سياسات حكومة الاحتلال الممنهجة بنزع سلاحهم وقتل مسلحيهم. إلا أن توجه سلطات الاحتلال لتسليح المستوطنين بشكل كبير، منذ صعود الحكومة اليمينية مطلع العام ٢٠٢٣، والإعلان عن مراحل متعددة لذلك التسليح أثار مخاوف وقلق المراقبين، خصوصاً أنها موجهة لمجتمعات لا تملك سلاحاً. و شهد العام ٢٠٢٤ تصعيداً كبيراً في هجمات المستوطنين الدموية على الآمنين الفلسطينيين، حيث أكد عسكريون إسرائيليون أن الفلسطينيين في تلك الهجمات لم يشكلوا أي خطر على هؤلاء المستوطنين المعتدين على أراضي الفلسطينيين ومنازلهم. وحدث تطور جديد في تلك الهجمات مطلع العام الجاري، والتي باتت تحدث بشكل يومي، ولا تستثني أي منطقة من مناطق الضفة الغربية، وتتوجه بأعداد كبيرة، وتتعمد القتل إلى جانب التدمير، في استهداف مقصود لإخافة السكان، وبث حالة من الرعب. وباتت جهات حقوقية ودولية تصف تلك بتحويل حياة الفلسطينيين في الضفة لكابوس ودعوة للتهجير.
في سياق متصل، يعد التطور الأهم والأكثر خطورة، هو الاعتداءات الشكلية للمستوطنين على جيش الاحتلال، الذي لطالما دعم وحمى تحركات المستوطنين، وشارك في إيذاء الفلسطينيين، أثناء هجماتهم. فقد صدرت بعض الأصوات الإعلامية الإسرائيلية في الأيام الأخيرة لوصف المستوطنين على أنهم دولة داخل دولة أو ظهور دولة المستوطنين، أو أن حكومة الاحتلال، التي تسيطر على كل ما يخص الفلسطينيين وغير الفلسطينيين في الضفة الغربية، قد فقدت السيطرة في الضفة، بسبب تلك الهجمات. إن حكومة الاحتلال بجيشها تعد الجهة التي رسخت الاستيطان والمستوطنين، فجيشها هو من يدرب ويسلح هؤلاء، ويمنح الامتيازات بجميع أشكالها لهم، لتشجيع إقامتهم في تلك المستوطنات، ويحمي هجماتهم ضد الفلسطينيين، ويتغاضى عن جرائمهم ويكفل عدم تعرضهم لأي عقوبة أو محاسبة، ولم يتوقف عن القيام بذلك الدور حتى عندما وجّه المستوطنون هجماتهم للجيش. ولطالما وجهت جهات حقوقية وإنسانية الاتهام لحكومة الاحتلال، ومنهم مؤسسات إسرائيلية، باستخدام اعتداءات المستوطنين لتحقيق سياسات حكومية، لا تقوى الحكومة على تحقيقها بصفتها الرسمية. ويبدو أن حكومة الاحتلال تجهز الساحة لتحميل المستوطنين أمام العالم، بصفتهم غير الرسمية، مسؤولية الهجمات المستقبلية على المدنيين الفلسطينيين.
الضفة في قلب الحرب على غزة، فمخططات الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة لم تبدأ منذ ٧ أكتوبر، كما تحاول إسرائيل أن تقنع العالم، بل بدأت منذ عقود طويلة. عندما ادعت أن فلسطين خالية من السكان. وعندما قتلت وهجّرت الفلسطينيين في العام ١٩٤٨ و١٩٦٧ وما بينهما. وعندما تبنت سياسة الاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين ونقل المستوطنين إليها. وعندما شكلت الحراك المسلح غير الرسمي للمستوطنين ضد الفلسطينيين العزل تحت الاحتلال. وعندما قسمت أراضي الفلسطينيين في اتفاق أوسلو إلى مناطق A وB وC لتحكم سيطرتها على معظم أراضي الضفة الغربية. وعندما تسلمت حكومة نتنياهو ووزراؤه اليمينيون السلطة في نهاية العام ٢٠٢٢، وبدؤوا بإجراءات لحسم الصراع مع الفلسطينيين.