نـسـتـمـــر ونـبــقى
نشر بتاريخ: 2025/06/28 (آخر تحديث: 2025/06/28 الساعة: 23:42)

ليس اكتشافاً ما نراه ونفهمه من علاقات دولية حرباً وسلماً، وما يفسّر من منطلقات المصالح؛ فلم يعد ذلك مفاجئاً على مستويات البشر وليس فقط على مستويات الدول. ورغم ضرورة فهم علاقات القوة، إلا أن الأكثر ضرورة هو، ليس تقوية الذات، بل إعادة الاعتبار لها، من خلال توظيف ما نملكه، وما نملكه كثير وكبير.

فإذا أرادت الولايات المتحدة والدول الكبرى اختبار حال الدول المتصارعة أو المتحالفة هنا، لأجل توظيف ذلك لمصلحتها، وحتى وإن عملت على تحجيم حليفتها دولة الاحتلال، فإننا نحن، الشعب الفلسطيني العربي، أحوج إلى الفعل أكثر من إنفاق وقتنا في الاستماع السلبي للأخبار، فلا تشكل حرب الأزرار إغراء كافياً لنا لنخفف من فعلنا؛ فقد أثبت التاريخ أن الأمم تبقى بأهلها لا بسلاحها فقط. وهكذا فقد حملت فأسي ورحت إلى ما يمكنه لي من عمل، ألا وهو تنظيف الأرض من الأعشاب الصيفية التي «تمتص «ربة الأرض»، وتسلب شجر العنب ما هو بأمسّ الحاجة له من قطرات ماء في داخل التربة. كان الفأس على الأرض يلبي حاجة الشجر، ولكن كان «مقص» الشجر حاضراً، فإن «توريق» الشجر من داخله لا يمنح «قطوف» العنب تهوية تحميها من أثر رطوبة الندى وما يشكل من خطر على ملمس حبات العنب وداخلها، بل أيضاً يزيل الأوراق والأغصان الزائدة، والتي تأخذ من ماء الأرض دون أن تقدم سوى القليل من السكر، لذلك فإن «توريق الشجر»، في حزيران يماثل «سقوة ماء». وهكذا نضمن نمو حبات عنب القطوف بمنحها الأولوية، وتكون مكافأتنا العنب الشهيّ في آب. وفي آب يقول المثل الشعبي عن قطف ثمار العنب: «في آب اقطع ولا تهاب». أي قم بقطف القطوف - العناقيد التي تغنى بها جبران واصفها بثريات الذهب في قصيدة المواكب، التي غنت فيروز منها الجزء الذي اشتهر بـ»أعطني الناي» وغنِّ:

هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب

والعناقيد تدلت كثريات الذهب

حين كبرت رحت أعيد التأمل بقطوف العنب المتدلية، فشعرت أنها تدهشني كثيراً، وأكثر بكثير من ثريات الذهب التي رأيتها في بعض المتاحف والقصور القديمة. وهنا شعرت كم أنّ والدي ومزارعي العنب في قرى العنب في القدس والخليل مبدعون.

- وين يا أستاذ؟ ليش مش بتابع أخبار الحرب؟

- والشجر؟ ماذا سنقول له؟

للزارع والصانع والتاجر، أن يواصلوا العمل، وذلك هو عملهم وعملنا، وللطلبة أن يهتموا بكتبهم، وللساسة أن يواصلوا عملهم في تقوية بقائنا هنا، وتلك وظيفة مقدسة. في الحقيقة لن تنفعنا غير أيدينا، والأكثر أهمية أن نضمن اتجاه الأيدي، وألا تكون في غير طريقها.

ليس علينا أن نتأمل طويلاً ما يفعله الآخرون، ولا إعادة قراءة منظومة المصالح، فنحن لا نعيش في مجتمع ملائكة، بل من المجدي أن نرتقي إلى الفعل النبيل؛ فماذا يعني الاقتتال أمام محطات الوقود؟ وهل كان لا بدّ من تدخل الشرطة مثلاً؟ ألم نطوّر وعياً كافياً بأن الخلاص لم ولن يكون فردياً؟

إذاً فإننا ما زلنا بحاجة للاستمرار في زيادة جرعات الإيجابية وتحمل المسؤولية، بالبدء من البيت، فما الذي سأفعله إن خزنت ما لا أحتاجه فعلاً؟ أليس من الأفضل الاستمرار بشراء ما نحتاجه فعلاً؟ فإذا حدث ما حدث ونحن بعيدون، فكيف لو تكررت مأساة غزة هنا؟ وهل هناك من يضمن الاحتلال مثلاً؟ إذاً فما دام الأمر كذلك، فنحن بحاجة للحكمة كثيراً والمحبة قليلاً؛ فإن لم يستخلص الناس - الشعب العبر، فما زال أمامنا الوقت لنعرف ما هو دورنا هنا في ظل هذه الصراعات الدولية والإقليمية. إنه الدور الحكيم الذي يعرف طريق الحياة، والمحافظة على ما حققنا من وجود.

تحارب الدول لتحقيق المصالح، وتتحالف طمعاً في الحصول على أكبر قدر من الثروات والموارد، أما نحن ففعلنا أكثر نبلاً، إننا نحارب لنبقى هنا فوق أرضنا، نحارب أنانية النفس، بوعي أن خلاصنا لم يكن فردياً، ولا حزبياً، بل هو وطني.

كان الأجدى بنا فلسطينياً أن نقوي علاقاتنا معاً، من خلال وحدة وطنية ممكنة، وكان المطلوب عربياً تقوية عملنا العربي القومي المشترك، فلا ندخل محاور نحن لسنا بحاجة لها، وهذا فقط ما سيقوينا، حين نخرج من دائرة التحالفات التي لا تعني لنا إلا أمراً واحداً ألا وهو منح الآخرين فرص توظيفنا، ونحن في أشد الحاجة لنكون أكثر استقلالاً واستقراراً، بعيداً عن وعود الأوهام، فلن تنتحر دولة في سبيل فلسطين، وما دام كذلك، فليستمر شعبنا في العمل. فكل موظف وعامل إنما يعمل لنفسه ووطنه معاً.

يطيل أبناء شعبنا الحديث في نقد الساسة، لكنهم يمارسون السلبيات نفسها، لذلك إنها دعوة لإعادة تقييم موضوعي للمحكوم والحاكم والعلاقة بينهما، باتجاه ضمان الاستمرار، ووقتها سنصل إلى مرحلة «في آب اقطع ولا تهاب»، حين يحين القطاف بعد أشهر وسنوات.

عربياً، «أعلن المبعوث الخاص للرئيس الأميركي ستيف ويتكوف أن توسيع «اتفاقيات إبراهيم» إحدى أولويات رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، مشيراً إلى إمكانية انضمام دول عربية أخرى إلى الاتفاقيات «لم تخطر على بال أحد»، وبالطبع فإننا لا نعرف مدى صدق الإعلان، ومدى ربط التطبيع باختراق ما في حل القضية الفلسطينية.

فلسطينياً، سنظل الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط، لذلك فليس أمامنا إلا «التقنيب والتوريق»، لأشجارنا حتى نضمن سلامة الثمار وقوة الشجر، ولا بدّ من حراثة الأرض حتى لا «تبور»، بل و»تقليبها»، للعودة إلى الخصوبة.

تحالفات، هنا وهناك، وصراعات، وتطبيع، وإلى آخره، ونحن لنا أن نتحالف مع أنفسنا، ونستمر في بقائنا. إن إعادة الاعتبار لما نملكه من إرادة وعقل، أما الحجر الذي ما زال يهمله البناؤون، فسيكون حجر الأساس طال الزمن أم قصر.