شهدت الأسواق المالية خلال الأسابيع الأخيرة واحدة من أكثر الظواهر تناقضًا: في ذروة تصعيد إقليمي خطير بين إسرائيل وإيران، حيث كانت التوقعات تشير إلى تدهور محتمل في الاقتصاد الإسرائيلي، سلك الشيكل الاسرائيلي طريقًا معاكسًا وواصل ارتفاعه أمام الدولار، حتى بلغ (حتى كتابة هذا المقال) مستوى 3.44، وهو أدنى مستوى له منذ أكثر من عام، هذا الانخفاض الحاد في قيمة الدولار أمام الشيكل أثار حيرة المتابعين ودفع المحللين إلى مراجعة أدوات القياس التقليدية.
لفهم هذا التحوّل، من الضروري أولًا العودة إلى جملة من العوامل التي تفاعلت خلال شهر كامل، أبرزها تدخل بنك إسرائيل المركزي بشكل مباشر في سوق الصرف، من خلال ضخ سيولة ضخمة من الاحتياطي الأجنبي تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار منذ بداية مايو، في محاولة لكبح أي حالة هلع مالي وتثبيت استقرار سعر العملة، ونجح هذا التدخل، ولو مؤقتًا، في كبح المضاربات وطمأنة الأسواق، خصوصًا مع إظهار طابع الصراع الإقليمي كحرب محسوبة ومحدودة، لا تهدد فعليًا مراكز الإنتاج أو البنية التحتية الحيوية في إسرائيل.
يضاف إلى ذلك، أن المستثمرين قرأوا التحولات العسكرية الأخيرة باعتبارها "مُدارة"، خصوصًا في ظل تجنّب إيران استهداف قواعد أمريكية مباشرة (بشكل فعلي ومركز)، وهو ما عزز من الاعتقاد أن التصعيد سيبقى داخل قواعد الاشتباك التقليدي، دون الوصول إلى حالة انزلاق إقليمي شامل، هذا التقدير عزز الطلب المؤسسي على الأصول الإسرائيلية قصيرة الأجل، ومنح الشيكل دعمًا غير متوقع.
لكن هل هذا الارتفاع في الشيكل يعكس قوة اقتصادية حقيقية؟ أم أنه نتيجة فنية ظرفية قد تنعكس بأي لحظة؟
الواقع أن الأداء الاقتصادي لإسرائيل لا يزال يعاني من تبعات الحرب المستمرة على غزة، ومن الانكماش الاستهلاكي الداخلي، وانخفاض الطلب في القطاعات الحيوية مثل السياحة والتكنولوجيا. كما أن نسبة الدين العام ارتفعت، والبطالة سجلت صعودًا محدودًا في بعض المناطق الحدودية. ومع ذلك، يبقى الشيكل قويًا أمام الدولار بفعل "التلاعب الوقائي" من بنك إسرائيل، لا بفعل معطيات الاقتصاد الحقيقي.
أما الدولار، وعلى الرغم من متانته أمام سلة العملات العالمية، إلا أن موقف الرئيس الأميركي ترمب تجاه سياسة رفع الفائدة، وانتقاداته المستمرة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، خلقا حالة من التذبذب في المزاج الاستثماري. فالمستثمرون باتوا يتوقعون ضغوطًا سياسية لخفض الفائدة في أي لحظة، مما أضعف جاذبية الدولار كعملة استثمار في المدى القصير.
وهنا تظهر مفارقة مثيرة: في الوقت الذي يُفترض أن تؤدي الحروب إلى تراجع عملة الدولة المنخرطة في المواجهة، فإن الشيكل ارتفع والدولار تراجع، ما يعكس حالة من التشوه المؤقت في منطق الأسواق، تُنتجها تدخلات البنوك المركزية لا القوة الذاتية للعملة.
وإذا ما استمرت التهدئة على الجبهات، فإن السيناريو المرجّح على المدى القريب هو استمرار قوة الشيكل، وربما اختراق حاجز 3.40 نزولًا، مدفوعًا بثقة السوق في قدرة إسرائيل على إدارة أزماتها، ورغبة المستثمرين في استغلال اللحظة لتحقيق مكاسب سريعة. لكن في المقابل، يبقى هذا الارتفاع هشًا؛ إذ إن أي عودة للاضطراب الأمني أو فشل مفاوضات ما بعد الحرب، قد يُعيد الدولار للارتفاع فوق 3.55 من جديد.
في المحصلة، يبدو أن المشهد النقدي الحالي في إسرائيل لا يعكس قوة اقتصادية بقدر ما يعكس قدرة البنك المركزي على التحكم النفسي بالسوق. أما الدولار، فيبقى تحت رحمة السياسة أكثر من الاقتصاد، وبالتالي، فإن أي تغير حاد في البيئة السياسية – سواء في تل أبيب أو واشنطن – قد يقلب المعادلة كليًا.