غزة الآن
نشر بتاريخ: 2025/06/22 (آخر تحديث: 2025/06/23 الساعة: 00:54)

الآن تُولَد طفلة وسط العراء، داخل خيمةٍ رثّةٍ على الحدود في رفح أو خانيونس، جاءت بها الأقدار في زمن الإبادة والموت، وأخرجتها إلى الحياة القابلة التي مدّت لها يد النجاة، فدفعت بها من أحشاء والدتها التي ماتت لحظة القصف، فكانت يتيمة منذ اللحظة الأولى، بلا حظ، بلا حضنٍ تؤوي إليه، وبلا أبٍ يحرُس لها أيامها، أو عائلةٍ تُدرّبها كيف تحبو في أيامها الأولى، لتقف بعدها على قدميها وتتنفّس هواء الحياة.

الآن يموت عجوزٌ آخر في الجوار، داخل مركز الإيواء، بعد أن قصفته الطائرات بصاروخ موجه، كان في الثمانين من العمر، بجسدٍ منهك وذاكرةٍ قوية، استطاعت أن تطرد عنها داء النسيان، بيد أنّها تناثرت شظايا بفعل الصاروخ الذي أصاب جسد الكهل، بينما كان يُقيم صلاة الفجر يوم الأحد الدامي.

الآن ينهش الجوع والعطش أجساد الصغار، وتبكي سيدةٌ على بكاء صغارها الجوعى، وتَشكو عجزها وضعف الحال والمصير المبهم، بعد أن تحوّلت مراكز توزيع الطعام إلى مصائد للموت والقتل، بفعل الغارات التي يُنفّذها الاحتلال مع سبق الإصرار والترصّد.

الآن تلفظ جدّةٌ أنفاسها قهرًا، بعد أن عاشت حياتها في تتابع النكبات وبين خيمتين؛ في الأولى شهدت ولادتها في العام 1948، وفي الثانية تشهد موتها في العام 2025، وبين هاتين الخيمتين مسافةُ عمرٍ قطعته وهي تجمع الآمال في صدرها، وتحفظ مفتاح بيتها الذي هُجّرت منه في عسقلان.

الآن يُحرَم تلاميذ غزة للعام الثاني من التقدّم لامتحانات الثانوية العامة، بفعل حرب الإبادة المستمرة وخراب المدارس والجامعات، فبينما يتقدّم اليوم تلاميذ الضفة والقدس لأول امتحان، وقلوبهم تئن على وجع زملائهم في غزة، يُراقب تلاميذ غزة صورةَ المشهد وهم يتجرّعون الألم والجوع وواقع الخراب.

الآن الحرب بين إيران وإسرائيل تستحوذ على اهتمام الفضائيات والمحلّلين والمراقبين والمتابعين، بينما يغيب صوت الجوعى الذين يموتون تحت وقع الإبادة الجماعية التي تشتد وتتصاعد عمليات القتل كل لحظة.

الآن وخلف ضجيج الحروب الكبرى وتهافت التحليلات السياسية، تُطوى حكايات الناس في غزة بصمتٍ موجع، حيث الحياة تولد على حافة الموت، ويُدفن الأمل تحت ركام الخيام والبيوت المدمرة، وتُمحى أحلام الطفولة من دفاتر الغد