نشر بتاريخ: 2025/11/10 ( آخر تحديث: 2025/11/10 الساعة: 12:34 )
عبد المجيد سويلم

تفكّك المنظومة السياسية أم النظام السياسي؟

نشر بتاريخ: 2025/11/10 (آخر تحديث: 2025/11/10 الساعة: 12:34)

واضح لكل ذي بصيرة سياسية تتابع الأزمات الإسرائيلية أن الحلقة الأضعف في الواقع الإسرائيلي هي حلقة المنظومات السياسية والحزبية، وواضح أكثر أن التفكّك في هذه المنظومات سيؤدي عند درجة معيّنة من استفحال أزماتها إلى تصدّعات، وربما انهيارات ستطال حتماً النظام السياسي في الدولة الصهيونية، وبما يمكن أن يشكل تهديداً مصيرياً على مؤسساتها.

في الحقل الفكري، لدينا سؤال يبدو أنه على درجة عالية من الراهنية، وهو إشكالي في المجال النظري، وفي المجال العملي المباشر على حد سواء.

والسؤال هو: هل أن تفكّك المنظومات السياسية، بما تنطوي عليه من أحزاب ومنظمات سياسية أو شبه سياسية، ومن منظمات اجتماعية لها السمات والخصائص السياسية سيؤدّي حتماً وبالضرورة إلى تفكّك النظام السياسي؟ أم أن تفكّك هذه المنظومات في الحالة الإسرائيلية له من الخصوصية في الواقع الإسرائيلي ما يمنع الوصول إلى هذه النتيجة، أو ربّما سيعزّز من الوصول إليها؟

للإجابة عن هذا السؤال، لدينا في الواقع الإسرائيلي جملة من المؤشّرات التي يمكن أن تساعدنا في الإجابة الموضوعية عنه.

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، دارت بعض النقاشات من بعض المفكّرين «الأجانب» حول هذه المسألة، ثم دخل المؤرّخون الجدد الإسرائيليون على خط هذا النقاش من بعض الزوايا العامة، ومن زواياهم الخاصة كمؤرّخين، ثم تتالت النقاشات بصورة خاصة بعد الانقلاب الانتخابي في العام 1977، عندما استلم «اليمين» الإسرائيلي الحكم بعد 27 عاماً من حكم ما يسمّى «اليسار» المتحالف مع أحزاب من «الوسط»، وأحياناً بشكل مباشر أو غير مباشر من القوائم العربية.

في خارطة المنظومات السياسية رأينا المؤشرات الكبيرة التالية:

1- انهيار تدريجي، ولكنه متسارع في مراحل معينة من ما يقارب الثلاثة عقود لحزب «العمل» الذي كان العمود الفقري للمنظومات السياسية على مدى هذه السنوات حتى أصبح، اليوم، مجموعات هامشية من تحالف أوسع مع ما كان يُعرف بحزب «ميرتس»، وكل التحالف لا يتجاوز 10% من الدعم الشعبي.

وصلت الأمور بالحزب الذي أسس الدولة العبرية، أو بنى القاعدة المادية الصلبة لها، وتحت قيادته خاضت «الدولة» مرحلة التأسيس، وكذلك حروب «إسرائيل الكبرى» في العام 1948، وهي ما يطلقون عليها «حرب الاستقلال»، ثم الحرب التي شاركت بريطانيا وفرنسا في حرب السويس/ العدوان الثلاثي، ثم خاضت حرب حزيران/ حرب الأيام الستة 1967، وانتصرت فيها، وقد خاضت دولة الاحتلال هذه الحرب بالتعاون مع «الغرب» عموماً، ومع الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص. ثم خاضت «حرب أكتوبر»، أو ما يسمونها «حرب الغفران» العام 1973، وقد استطاعت بالتعاون والتنسيق الكامل مع الأخيرة أن تتفادى هزيمة قاتلة، وتمكّنت من الحفاظ على اتزان معين حال دون انهيارها الكامل.

وفي عهد «العمل» أعيد تسليح الدولة الصهيونية بأحدث الأسلحة الأميركية و»الغربية»، وتمّت صناعة الرؤوس النووية، وتم إلحاق اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة بالاقتصاد الإسرائيلي، وأمّنت دولة الاحتلال مكاسب إستراتيجية في تحويل المناطق المحتلّة إلى يدٍ عاملة رخيصة نسبياً، وتم تحويل الأسواق الفلسطينية إلى أسواق استهلاكية وحيدة للبضائع الإسرائيلية.

ومع ذلك كلّه سقط «العمل»، ولولا التحالف الأخير مع «ميرتس» بقيادة يائير غولان لتمت إحالة «العمل» إلى التقاعد السياسي.

2- تميّزت كامل هذه المرحلة بظاهرة صعود أحزاب «الوسط»، أو ما يسمّونه أحزاب «المركز»، واستطاعت هذه الأحزاب أن تشكّل ثقلاً انتخابياً كبيراً في بعض الفترات، وأن تلعب دوراً حاسماً في تشكيلة الحكومات الإسرائيلية، لكنها سرعان ما كانت تنهار وتتلاشى بين دورة انتخابية وأخرى.

3- أمّا العقود الثلاثة الأخيرة فقد تميّزت بصعود الأحزاب الصهيونية الدينية بجناحيها القومي والديني، وأصبحنا أمام ظاهرة جديدة من تبوُّؤ الأحزاب الفاشية والكهانية مركز الثقل والصدارة كأحزاب لا يستطيع حزب «الليكود» الحكم من دونها مطلقاً، مع أن تجميعها ولملمتها كان بقرار مباشر، وبرغبة مباشرة من «الليكود» نفسه، ومن بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الفاشية، برغبته وإرادته وتخطيطه ورعايته المباشرة.

الشيء النوعي الجديد حول «اليمين الجديد» في دولة الاحتلال منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، وحتى يومنا هذا هو أنه قد قرّر بمحض إرادته الخاصّة أن يحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، وأن ينتقل إلى «تصفية» القضية الوطنية الفلسطينية من كل جوانبها.

كما كتبنا عدّة مرات من على صفحات «الأيام» وفي عدة مقالات فقد رأى هذا «اليمين» أن حسم الصراع يحتاج إلى حسم صراع داخلي «كضرورة» موضوعية للوصول إلى نتائج حاسمة.

من هنا بدأ «اليمين الجديد» «الانقلاب القضائي» لأنه ببساطة أراد من خلاله أن ينقلب على «الديمقراطية»، وأن ينهي وإلى الأبد أي آمال لأحزاب «الوسط»، أو «اليسار» في الحكم إلا بشروطه، وهو لم يعد مستعداً أن يشارك أي حزب «معارض» في الحكم إلا وفق هذه الشروط.

وراهن «اليمين الفاشي» أن من شأن «نجاح» الانقلاب أن يؤدّي إلى حسم الصراع، وأن كل ذلك سيمهّد الطريق للانقضاض التام والكامل على «الديمقراطية»، والقبول بها فقط بشروط خاصة تحوّلها إلى ديكور سياسي «للتصدير»، وليس لضبط الحياة السياسية في الدولة الصهيونية.

معظم الليبراليّين في «الغرب»، وفي دولة الاحتلال كانوا لا يزالون يعتقدون أن «الانقلاب» هو ظاهرة عابرة لا تعدو كونها امتداداً متأخراً لـ»الريغانية السياسية»، نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، أو لـ»التاتشرية»، نسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر، أو هي ظاهرة حتى وإن كانت غير عابرة تماماً إلا أنها تشبه صعود «اليمين» في الهند والبرازيل والنمسا، أو غيرها من البلدان التي لوحظ فيها صعود لهذا النمط، كظاهرة احتجاجية أو تمرّدية أو ما شابه من حالات وجدت في بعض البلدان بما فيها إيطاليا وفرنسا وألمانيا وغيرها.

لكن الحقيقة هي أن الفاشية الصاعدة هي فاشية مكتملة الأركان، وهي ظاهرة لها بعدها الفكري والعقائدي المتّسق في الرواية الصهيونية، ولها ثقافتها المنتشرة على نطاق واسع في المجتمع، بل وتكاد تكون هذه الثقافة هي السائدة في الحقل السياسي، كما أن هذه الظاهرة باتت ظاهرة منظمة ومسلحة، ولها روافد ميليشياوية عالية الدقّة على مستوى التنسيق البرنامجي والعملياتي، وهي تتغلغل في مؤسسات الدولة بصورة أعمق فأعمق، بعد أن قام نتنياهو بتحويل الولاء السياسي الزبائني إلى نمط مساند في الصلاحيات وفي المسؤوليات، وتحوّلت الظاهرة إلى التحكّم بمفاصل سيادية لم تعد تحسب على مفهوم «الدولة العميقة» في دولة الاحتلال.

لا يتّسع المقال لتوضيح الآليات التي من خلالها تترسّخ الفاشية كنمطٍ للعلاقات الداخلية في دولة الاحتلال، وكنظام حكم بديل عن المنظومات السابقة كلها، ومن دون استثناء. لكن ومع ذلك «الانقلاب القضائي» لم يتوقف إلا مؤقتاً، وعاود الآن واستأنف مساره نحو إنهاء ما تبقّى من الديمقراطية الإسرائيلية على كلّ علّاتها، وعلى كل ما تمثله من نقائص، وخصوصاً لكونها ديمقراطية إثنية وعنصرية، ومن كونها محكومة ومشروطة بنمط الهيمنة «اليهودية» عليها، ليس من زاوية الدين، وإنما من زاوية اندماج الدين في المنظومة الصهيونية.

باختصار، نحن أمام صراع على المنظومة مؤقتاً، لكن هذا الصراع ليس على بقاء نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» من عدمه، أو بقاء الحكومة الفاشية أو «الائتلاف الفاشي» من عدمه.

نحن أمام صراع آخر، نوعي وجديد، ليس مجرد بعض السمات والمواصفات الفاشية، وإنما أمام منظومة سياسية تعرف أن معركتها هي معركة حياة أو موت، ولذلك فهي ماضية في الانقضاض على «الدولة العميقة»، وعلى النظام السياسي الذي مثّلته الأخيرة في حماية النظام، وعلى النظام السياسي الذي حاول المحافظة على دولة الاحتلال.

كل تغيّر أو تبدّل سياسي هو مؤقّت لأن الصراع هو على بنية دولة الاحتلال، وعلى بنية النظام السياسي، وهذا هو مآل الصراع على المنظومة، وليس غيره. التفكّك في المنظومة مؤقّت لأن التفكّك الحقيقي القادم هو التفكّك المحتوم للنظام والكيان الكولونيالي.