نشر بتاريخ: 2025/11/02 ( آخر تحديث: 2025/11/02 الساعة: 17:25 )

من ضبط الفوضى إلى هندسة المخاطر.. قرار سلطة النقد يختبر جاهزية الاقتصاد الفلسطيني

نشر بتاريخ: 2025/11/02 (آخر تحديث: 2025/11/02 الساعة: 17:25)

الكوفية في خطوة وُصفت بالجريئة والمثيرة للجدل، أعلنت سلطة النقد الفلسطينية عن نيتها إصدار قانون يمنع التعامل النقدي بمبالغ تتجاوز 20 ألف شيكل، في مسعى واضح للحد من الاقتصاد النقدي غير المنظم، وتعزيز الشفافية المالية، ومواكبة التحولات الإقليمية والدولية نحو الأنظمة الرقمية والرقابية الحديثة، هذه الخطوة، وإن بدت على السطح إجراءً تقنياً لضبط السوق، فإنها في جوهرها تمس أحد أكثر الملفات حساسية في البنية الاقتصادية الفلسطينية، حيث يتقاطع فيها ما هو مالي بما هو سياسي واجتماعي وتنظيمي في آنٍ واحد.

أسباب هذا القرار تبدو متعددة؛ فمن جهة، تسعى سلطة النقد إلى تقليص حجم الاقتصاد غير الرسمي الذي يُقدَّر بأكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعتمد بدرجة كبيرة على السيولة النقدية المتداولة خارج الجهاز المصرفي، ومن جهة أخرى، يتصل القرار بمحاولات السلطة الفلسطينية إظهار التزامها بالمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهي خطوة ضرورية في سياق الضغوط الغربية والإقليمية التي تدفع باتجاه "إصلاحات مالية" تمهّد لإعادة هيكلة السلطة الفلسطينية مالياً وإدارياً ضمن ترتيبات ما بعد الحرب على غزة، بهذا المعنى، يصبح القرار جزءاً من مشهد أوسع يُراد من خلاله تحويل أدوات السيطرة المالية إلى أدوات ضبط سياسي واجتماعي تحت عنوان الإصلاح والشفافية.

لكن هذا القرار، رغم وجاهة أهدافه النظرية، يصطدم بواقع فلسطيني شديد التعقيد؛ فالاقتصاد الفلسطيني اقتصاد مُجزأ ومكشوف، يفتقر إلى سيادة نقدية حقيقية، وتغيب عنه أدوات السياسة النقدية الكاملة في ظل غياب عملة وطنية وسيطرة إسرائيلية على الحركة المالية والمعابر، ويُضاف إلى ذلك أنّ التعامل النقدي في السوق المحلي ليس خياراً رفاهياً بل ضرورة فرضتها هشاشة النظام المصرفي، وضعف الثقة بالمؤسسات المالية، والقيود الإسرائيلية التي تعيق حركة الأموال والتحويلات، وفي مثل هذا السياق، فإن محاولة فرض سقف صارم على التعامل النقدي تبدو أقرب إلى مقاربة "الاقتصاد الحديث" في بيئة لا تزال "شبه نقدية" في بنيتها ووظائفها.

من حيث الإيجابيات، لا يمكن إنكار أن تطبيق هذا القانون - إن تم بنجاح - قد يسهم في تعزيز الشفافية المالية، ومكافحة التهرب الضريبي، وتحسين قدرة الدولة على تتبع حركة الأموال، ما يتيح رؤية أوضح لدوائر صنع القرار المالي حول اتجاهات السوق وحجم النشاط الاقتصادي الحقيقي، كما أن هذه الخطوة ستُقرّب الاقتصاد الفلسطيني من منظومة الرقابة الإقليمية التي تتجه إلى "الاقتصاد المُمَكن رقمياً"، بما ينسجم مع التحولات الجارية في العديد من دول الاقليم التي جعلت من الحد من التعامل النقدي ركيزة للإصلاح المالي.

إلا أن الجانب السلبي لا يقل وزناً؛ ففرض حد أقصى للتعامل النقدي في ظل ضعف البنية الرقمية، وتفاوت مستويات الوعي المالي، وغياب أدوات الدفع الإلكترونية الشاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، سيخلق حالة من الإرباك وربما النفور من التعامل المصرفي، كما أن جزءاً كبيراً من الأنشطة التجارية - خاصة في القطاعات الزراعية والإنشائية والتجزئة - يعتمد على النقد لتجنب التعقيدات المصرفية والرسوم المرتفعة، وسيجد كثيرون أنفسهم مضطرين للبحث عن وسائل للتحايل، سواء عبر تقسيم المعاملات أو استخدام وسطاء نقديين، ما قد يُفرغ القانون من مضمونه ويحوّله إلى إجراء شكلي يثقل كاهل السوق دون أن يحقق أهدافه.

ثمّة بُعد سياسي لا يمكن تجاهله هنا؛ فالقانون يأتي في لحظة تتكثّف فيها الدعوات الدولية لإصلاح السلطة الفلسطينية وتحديث هياكلها المالية، ما يجعل هذه الخطوة في نظر البعض استجابة لضغوط خارجية أكثر منها تعبيراً عن حاجة داخلية، كما أن قدرة السلطة على فرض الالتزام بالقانون مرهونة بثقة المواطنين والمؤسسات، وهي ثقة مهتزة في الأصل؛ لذا فإن تطبيق القرار دون توفير بيئة اقتصادية عادلة، وضمان الوصول السلس إلى الخدمات المصرفية في كل المناطق، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، تزيد من عزوف الناس عن التعامل الرسمي وتغذي الاقتصاد الموازي.

باختصار، إنّ قانون الحد من التعامل النقدي، رغم ما يحمله من نوايا إصلاحية، يبدو كمن يحاول “ترتيب البيت المالي” في بيتٍ لم تُغلق أبوابه بعد. لا يمكن بناء اقتصاد رقمي أو شفاف قبل معالجة التشوهات الهيكلية الأعمق، وعلى رأسها ضعف السيادة المالية وغياب العدالة في الوصول إلى الموارد والأسواق، فالإصلاح لا يُقاس بعدد القوانين التي تُسن، بل بمدى اتساقها مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يُفترض أن تخدمه، وبين الرغبة في التحديث ومتطلبات البقاء، يظل التحدي الأكبر أمام سلطة النقد هو إيجاد التوازن بين الانضباط المالي والمرونة الواقعية في اقتصادٍ يعيش تحت الضغط والاحتلال معاً.