إيران.. من المخصَّب إلى المهرَّب

نبيل عمرو
إيران.. من المخصَّب إلى المهرَّب
الكوفية منذ زمن قورش الأول مؤسس الإمبراطورية الفارسية، وحتى زمن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لم تنفق إيران في كل عهودها ما أنفقت على مشروعها النووي.
وسواءٌ دمرت منشآت المشروع الرئيسية الثلاث كلياً أو جزئياً، إلا أن العصارة التي نجت فيما يبدو، هي الستمائة كيلوغرام من اليورانيوم المخصّب التي تم تهريبها من المواقع المستهدفة الثلاثة، إلى أماكن مجهولة، وليس غير حاسوب يدلنا كم كلّف الغرام الواحد من مالٍ وأرواحٍ وممتلكات.
سياسياً دعا الرئيس ترامب الإيرانيين للعودة إلى مائدة المفاوضات، وكأن الحرب لم تقع، وكأن جدول أعمالها استنسخ حرفياً عن جدول الأعمال الذي تأجل، غير أن الذي اختلف بعد الإثني عشر يوماً من الحرب، هو حال اليورانيوم الذي غادر مكانه الطبيعي والخطر في المفاعلات، إلى مكانٍ مجهولٍ فرض على المفاوض الإيراني المناورة بنصف المشروع بعد أن لم يعد النصف الآخر صالحاً للمناورة به كما كان في السابق.
حال بدء المفاوضات، سوف يستعرض الأميركي على محادثه الإيراني ما يعتبره مزايا للموقف الأميركي خلال الحرب، المختلف عن الموقف الإسرائيلي، ذلك أن الأميركي لم يذهب في عملياته الحربية وإسناده لإسرائيل إلى ما هو أبعد من المشروع النووي، كما أظهر قولاً وعملاً أن إيران بالنسبة لأميركا ترامب، هي مشروع استثماري واعد بربح وفير، إلا أنه يتطلب أن تكون الدولة الإيرانية خالية من القوة النووية وحتى الباليستية، ومتجردة من الأذرع «المشاغبة»، ومن تطلعاتها المثيرة لمخاوف الجيران، كما يتطلب تغيير الخطاب من لغة التهديد والوعيد بإبادة إسرائيل، إلى خطاب أقرب إلى خطاب الإقليم الذي يعبر عن سياساتٍ تعايشية إن لم تكن تطبيعية تماماً.
تحولت إيران بعد حرب الإثني عشر يوماً وعلى نحو ما قبلها بقليل، من صاحبة مشروع نفوذٍ إقليمي دولي يمتلك أذرعاً تنتشر على المفاضل المهمة في الشرق الأوسط ويعززه تقدمها في مجال الإنتاج الحربي، حيث الباليستي والمسيّرات والوصول إلى عتبة النووي، تحولت من هذا الموضع المغري إلى وضعٍ لا تملك فيه سوى عنادها ولحمها الحي، الذي هو أجدى كثيراً من توظيف لحم الآخرين في لعبة نفوذٍ محكوم عليها بالفشل.
إيران في كل حالاتها جغرافياً وبشرياً وثروات، تظل دولةً إقليمية عظمى، لو أحسنت استخدام ما تملك دون شطط وجموح، والتوقف عن الجري وراء استعادة الماضي القديم، للدخول به إلى واقع الحاضر، دون وعي لحقائقه وأحجام القوى المتنفذة فيه، لو أحسنت إيران ذلك لما رأينا ما نراه الآن، وأخفّ وصفٍ له أنها دولة عظمى ولكن جريحة، تنزف من داخلها ومن حولها مكبلة بأغلال الحلم المستحيل، إذ لا امبراطوريات جديدة يُسمح بنشوئها في هذا العصر، وحتى الإمبراطوريات النووية والاقتصادية المتكرسة تخوض صراعاً مريراً من أجل حماية ذاتها والحفاظ على مصالحها، وتأجيل تصدعها وانهيارها قدر ما يسمح به التاريخ.
لم يدرك أصحاب القرارات في إيران أن التطلع لنفوذٍ امبراطوري في القرن الحادي والعشرين، وإنفاق جل ما تمتلك الدولة من إمكانات واحتياطيات للحاق بالإمبراطوريات المتكرسة له ارتدادات كارثية، ليس على المشروع غير المنطقي من أساسه، وإنما على الدولة والمجتمع وعلى وتيرة التقدم في التنمية ومستوى الحياة.
وحين يُفتقد التوازن بين عناصر القوة ومتطلبات الحياة، في دولةٍ ومجتمع واسع المساحة وكثير السكان، فالنتيجة الحتمية هي الخسارة المحققة في كل المجالات، وهذه حالة لا تخص التجربة الإيرانية وحدها، بل تنسحب على جميع الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، ذلك أن القانون الواحد بشأنها جميعاً أنها تتشابه في البدايات والنهايات.
إذاً إلى أين ينبغي أن يتجه المسار الإيراني الجديد؟
مخطئٌ أي إيراني، مهما كان أصله ودينه ومذهبه وثقافته، حين يعتبر العالم العربي معادياً للدولة الإيرانية، سواءٌ كان اسمها الإسلامية أو الفارسية أو الدينية أو الديمقراطية، أو أي تسمية تختار لنفسها، ذلك أن ما تمتلكه إيران من مواصفاتٍ وإمكانيات ترجح كونها مشروعاً لعلاقاتٍ إستراتيجيةٍ مع جوار عربي، أساسها حسن الجوار بل حسن إدارته والتعامل معه، وتلك حقيقة ترقى إلى مستوى المبدأ سواءٌ في زمنٍ وضعت فيه أول لبنةٍ في المشروع النووي، أو في زمن وقوف الدولة الإسلامية على عتبة إنتاج السلاح النووي، أو في التحول من المخصّب إلى المهرّب، فهل تنتبه إيران لدروس ما حدث لها منذ ثورة الخميني وحتى الوقوف على عتبة النووي وانكسار العتبة أو تصدعها بتوجيه الاهتمام والعمل إلى وجهته الصحيحة؟
المجال الحيوي للدولة والمجتمع الإيراني هو العالم العربي القريب منها أو حتى البعيد عنها، إذ ليس غيره من لا يهددها، بل إنه يتطلع إلى أفضل وأمتن العلاقات العادلة معها، ولا ينقص إيران معرفة القرائن الدامغة على ذلك إلا أن الذي ينقصها حتى الآن هو اعتماد الوسائل الصحيحة لبلورة علاقاتٍ تكاملية راسخة قوامها عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة.. علاقاتٍ تكاملية يستفيد منها الجميع.