إسرائيل تحت المجهر المالي: من الحروب المفتوحة إلى الانكشاف الائتماني

إسرائيل تحت المجهر المالي: من الحروب المفتوحة إلى الانكشاف الائتماني
الكوفية في خضم التصعيدات العسكرية مع غزة، ثم التوتر المباشر مع إيران، لم تكن إسرائيل تواجه فقط تهديدات وجودية بالمعنى الأمني، بل أيضًا انكشافًا متسارعًا في ملفها الائتماني والاقتصادي أمام المؤسسات الدولية والمستثمرين. فالمخاطر التي كانت تُقيَّم في السابق وفق اعتبارات الجغرافيا السياسية المحدودة، باتت اليوم تُرصد بأدوات علمية ومالية دقيقة، أبرزها تقارير ICRG(الدليل الدولي لمخاطر الدولة)، وتصنيفات وكالات كبرى مثل Moody’s وS&P، التي بدأت تدق ناقوس الخطر بشكل صريح.
منذ 7 أكتوبر 2023، سُجل تراجع ملحوظ في تقييم إسرائيل ضمن مؤشر ICRG، خاصة في ثلاثة محاور أساسية: الاستقرار السياسي، الأداء الاقتصادي، ومخاطر التمويل ، لقد فقدت إسرائيل ما يقارب 4 الى 5 نقاط في المجمل من أصل 100 نقطة على سلم تصنيف المخاطر السياسية، نتيجة انفراط عقد التماسك الداخلي، وتصاعد الفوضى السياسية، وحالة الانقسام المزمن داخل الحكومة والكنيست، ما أثر سلبًا على عنصر "الاستقرار الحكومي" و"مستوى الشفافية". هذه العوامل مجتمعة أضعفت جاذبية إسرائيل كوجهة آمنة للاستثمار في المنطقة.
ولم يكن ICRG وحده من دق ناقوس الخطر. فوكالة Moody’s خفّضت في فبراير 2024 تصنيف إسرائيل من A1 إلى A2، وعدّلت نظرتها المستقبلية من "مستقرة" إلى "سلبية"، في قرار تاريخي هو الأول من نوعه منذ أكثر من 30 عامًا. أما وكالة Standard & Poor’s (S&P)، فقد حافظت مؤقتًا على التصنيف عند A+، لكنها خفّضت النظرة المستقبلية إلى "سلبية" أيضًا، ما يعني أن خفضًا وشيكًا قد يتم في أي لحظة إذا استمرت الهشاشة السياسية والأمنية. السبب الرئيسي حسب الوكالات لم يكن فقط الحرب في غزة أو التوتر مع إيران، بل أيضًا ضعف الحوكمة، وتآكل الثقة في المؤسسات، وانعدام وضوح السياسة المالية.
على الصعيد الاقتصادي، دخلت إسرائيل عمليًا في مرحلة تباطؤ غير معلنة، حيث يتوقع أن لا يتجاوز النمو 1.2% في 2025، مقارنة بـ 6.5% في 2022. كما تجاوز العجز في الموازنة 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تتراجع الصادرات عالية التقنية (والتي التي تُشكل أكثر من 50% من إجمالي الصادرات) بنسبة تقارب 20% بفعل تراجع الثقة، وتسرب رؤوس الأموال إلى الخارج. يُذكر أن أكثر من 60% من الشركات الناشئة في إسرائيل باتت تسعى لتسجيل كياناتها القانونية خارج البلاد.
من جهة المخاطر المالية، ارتفعت علاوة المخاطر على السندات الإسرائيلية طويلة الأجل إلى 130 نقطة أساس، وهو أعلى مستوى منذ عقدين، ما يعني ارتفاع كلفة الاقتراض للحكومة وانكماش شهية المستثمرين. كما تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 30% خلال الأشهر الستة الماضية، وفق بيانات وزارة المالية الإسرائيلية، وهي نسبة مقلقة في دولة تعتمد على تدفقات رأس المال الخارجي كمحرك للنمو.
إضافة إلى كل ذلك، تراجعت ثقة الأسواق الدولية في قدرة إسرائيل على تنفيذ التزاماتها المالية في ظل انشغال حكومتها بسياسات أمنية مفتوحة.هذا الانكشاف شمل حتى القطاع المصرفي الإسرائيلي، إذ تعرّضت بعض البنوك لمخاطر انخفاض في التقييم الائتماني نتيجة تحذيرات من مؤسسات تصنيف دولية حول الاستقرار النقدي، خاصة في ظل اضطرابات أسعار الصرف الأخيرة مقابل الشيكل.
مخاطر الاقتصاد الاسرائيلي هنا لا توحي بانفراج قريب، فالتحديات الهيكلية المتداخلة (بين التصدعات السياسية والانفجارات الأمنية والأعباء الاقتصادية) تصنع حلقة مفرغة يصعب كسرها بقرارات مالية آنية، فالتوجه نحو اقتصاد أمني دفاعي، بدل اقتصاد إنتاجي تنموي، يعمّق أزمة الثقة، ويجعل إسرائيل أمام خيارين أحلاهما مر: إما الانكفاء نحو الداخل مع كلفة اقتصادية باهظة، أو الاستمرار في تدوير الأزمات على حساب التصنيف السيادي والجدارة الائتمانية.
في المحصلة، فإن المؤشرات مجتمعة ترسم صورة قاتمة للمخاطر في إسرائيل، ليس فقط في أعين مراكز التصنيف، بل أيضًا في حسابات الأسواق العالمية، ومع أن الدولة لا تزال تمتلك احتياطيات وقوة اقتصادية نسبية، إلا أن استمرار النهج الحالي سيجعلها عرضة لمزيد من التراجعات، حيث لا تسامح للأسواق مع الغموض، ولا مرونة للمؤسسات الدولية تجاه الحروب المفتوحة بلا أفق.