نشر بتاريخ: 2025/06/22 ( آخر تحديث: 2025/06/22 الساعة: 20:59 )

بين الحصار البنكي والمأزق السياسي: أزمة الشيكل وتآكل السيادة الفلسطينية

نشر بتاريخ: 2025/06/22 (آخر تحديث: 2025/06/22 الساعة: 20:59)

الكوفية في قلب واقع اقتصادي وسياسي معقّد، تتفاقم أزمة تكدس الشيكل في الضفة الغربية كأحد أبرز تجليات الحصار المالي الناعم الذي يُمارس على الفلسطينيين ليس فقط كإجراء اقتصادي بل كأداة خنق للسيادة الوطنية، وتبرز الأزمة كمؤشر خطير على مدى هشاشة البنية النقدية الفلسطينية ومدى التبعية التي فرضها اتفاق باريس الاقتصادي وتحكم إسرائيل بمفاصل الحياة الاقتصادية الفلسطينية، بما فيها العملة والمصارف والتحويلات المالية.

ما يبدو للوهلة الأولى أزمة نقدية، يتجاوز كونه خللًا مصرفيًا إلى كونه سلاحًا إسرائيليًا جديدًا لتقويض السيادة الفلسطينية فالفلسطينيون لا يملكون عملة وطنية ولا مصرفًا مركزيًا حقيقيًا ولا سيطرة على بواباتهم النقدية وهو ما يجعلهم عرضة لتلاعب مالي يوازي في خطورته التهديدات العسكرية.

تتجلى أبعاد أزمة الشيكل بوضوح في ما يمكن اعتباره تآكلًا متسارعًا للسيادة الوطنية الاقتصادية فغياب السيادة النقدية يُعدّ أحد أبرز مظاهر هذا التآكل حيث يُستخدم الشيكل كعملة أساسية في السوق الفلسطيني دون أن تملك السلطة أدوات التحكم به مما يجعلها رهينة للقرار الإسرائيلي خصوصًا أن تل أبيب تتحكم في حجم العملة المتداولة وفي آلية إخراجها من النظام المصرفي الفلسطيني وبالتالي تُمسك فعليًا بعصب الحياة الاقتصادية.

ويتعمّق هذا الوضع نتيجة التبعية الهيكلية التي فرضها اتفاق باريس والذي قيّد الفلسطينيين ومنعهم من إصدار عملة وطنية أو بناء سياسة نقدية مستقلة ما أبقى الدورة المالية اليومية تحت سيطرة خارجية لا يمكن للسلطة التأثير فيها. أما رفض البنوك الإسرائيلية استقبال الشيكل فلا يمكن اعتباره عارضًا فنيًا بل هو قرار سياسي مدروس هدفه خنق السيولة وإشاعة الشعور بالعجز لدى المواطنين والسلطة معًا ضمن استراتيجية ضغط غير معلنة تهدف إلى تهيئة الأرضية لفرض تسويات سياسية واقتصادية. هذا كله أدى إلى تفكك تدريجي في ثقة المواطن بالمؤسسات الوطنية، إذ بات من الصعب إيداع الأموال أو استخدامها بحرية، ما ينعكس في فقدان الثقة بالقطاع المصرفي وبالسلطة وبالنظام الاقتصادي ككل ويُمهّد لارتفاع مستويات الغضب الاجتماعي وإلى جانب ذلك فإن تقلص قدرة البنوك على العمل وتراجع حجم التعامل النقدي الرسمي وتزايد الاعتماد على السوق السوداء كلها عوامل تُقوّض فرص الاستثمار وتُعرقل خطط التنمية وتفتح الباب أمام الفوضى والانهيار بدلًا من التنظيم والنمو.

هذا وتفرز الأزمة الحالية جملة من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تُنذر بتعقيد المشهد المعيشي الفلسطيني فقد بدأ التحوّل التدريجي نحو السوق السوداء كمصدر رئيسي للتداول النقدي بما يحمله ذلك من مخاطر قانونية وأمنية تهدد الاستقرار العام وتفتح الباب أمام أنشطة غير خاضعة للرقابة وبالتوازي مع ذلك تتكدّس كميات كبيرة من السيولة في البيوت والمحال التجارية، دون أن تجد طريقًا إلى الاستثمار أو الاستخدام المنتج ما يجعلها مالًا معطّلًا يخرج من الدورة الاقتصادية الرسمية. ويتفاقم هذا الوضع في ظل تفاوت طبقي متسارع حيث يتمكّن البعض ممن يملكون أدوات تصريف غير نظامية من النجاة جزئيًا من الأزمة بينما يُجبر آخرون على تجميد أموالهم أو خسارتها. هذا المشهد ينعكس مباشرة على النشاط التجاري الذي بدأ يشهد حالة من الانكماش الاضافي لاقتصاد يعاني الخنق أصلاً إلى جانب تراجع ملحوظ في النمو بقطاعات حيوية مع تصاعد مؤشرات لهجرة رؤوس الأموال وتحويل المدخرات إلى خارج النظام المصرفي المحلي كنوع من الحماية من الانسداد المالي المفروض.

في مواجهة هذه الأزمة المتفاقمة تبرز الحاجة إلى حلول استراتيجية واقعية ومبتكرة تبدأ بتطوير نظام دفع رقمي محلي يسمح بتداول الشيكل إلكترونيًا بين الأفراد والتجار دون الحاجة لإيداعه فعليًا في البنوك ما يخفف من ضغط السيولة ويُبقي النقد داخل الدورة الاقتصادية كما يُعد فتح ملف اتفاق باريس وإعادة التفاوض حوله ضرورة سياسية واقتصادية لضمان قدر أكبر من الحرية النقدية والاستقلال المالي.

إلى جانب ذلك، يُقترح إنشاء صندوق سيادي وطني يتولى جمع السيولة الزائدة وتدويرها في مشاريع إنتاجية وتشغيلية داخلية بالتنسيق مع البنوك كآلية لتجاوز التكدّس ويمكن كذلك التعاون المنظّم مع فلسطينيي الداخل لامتصاص جزء من فائض الشيكل في أسواق 48 ضمن قنوات اقتصادية موثوقة. وعلى الصعيد المجتمعي يمكن تفعيل نماذج المقايضة المحلية من خلال شبكات تعاونية تسمح باستخدام الشيكل لشراء سلع وخدمات مباشرة دون المرور بالنظام البنكي أما دوليًا فإن حملة ضغط وتوعية على المستوى الدولي باتت ضرورية لتسليط الضوء على هذه الأزمة أمام المؤسسات المالية العالمية وأخيراً يمكن التفكير جديًا في تحفيز التحول الجزئي إلى عملات بديلة مثل الدينار والدولار من خلال تنسيق مباشر مع سلطة النقد الفلسطينية والبنك المركزي الأردني بما يخفف من الاعتماد المفرط على الشيكل ويُعيد بعض التوازن إلى النظام النقدي الفلسطيني.

وختاماً وحيث أننا نرى أن أزمة الشيكل لا تمثل فقط مشكلة في إدارة النقد بل هي صورة مصغرة عن أزمة السيادة الفلسطينية إذ لا يمكن بناء اقتصاد حر أو نظام مالي مستقل طالما أن آليات التحكم الأساسية بيد الاحتلال فان ما يجري ليس خنقًا للمال بل خنقًا لإمكانية بناء دولة فان المطلوب -علاوة على الحلول التقنية- مراجعة جذرية للعلاقة الاقتصادية مع الاحتلال وبناء تصورات واقعية لاقتصاد مقاوم أكثر استقلالًا وأكثر وعيًا بدور المال في الصراع فالسيادة تبدأ من القدرة على التحكم بالعملة كما تبدأ الحرية من القدرة على كسر أدوات التبعية ومنها الشيكل.